"الدار".. مسرحية واقعية تكشف الفساد في المجتمع

تعد مشاريع التخرج الفني، وخاصة في اختصاص المسرح، فرصة للطالب كي يبرز قدراته على الأداء وفق ضوابط أكاديمية شديدة الدقة، لكنها أيضا فرصة له لخوض أول تجاربه أمام جمهور كبير يخضعه للتقييم والنقد، وتمنحه أيضا المجال لدراسة أساليب الأساتذة المؤطرين الذين يحاول بعضهم كسر الأنماط السائدة بتقديم مواد وأعمال مسرحية تقتبس من المدارس السابقة والشهيرة لكنها تؤسس لمسرح مختلف يواكب تطورات العصر.
دمشق – على خشبة المسرح الدائري مسرح فواز الساجر في المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق قدم طلاب السنة الرابعة في المعهد مشروع تخرجهم المتمثل بعرض مسرحي حمل عنوان “الدار” تضمن نصاً ارتجالياً استمر مئة وسبعا وثمانين دقيقة.
العرض الذي استمر إلى غاية الثلاثين من شهر يونيو الماضي جاء بتوقيع الفنان السوري فايز قزق الذي نجح هذا العام في تأكيد حضوره ضمن المسلسلات الرمضانية كواحد من أكثر الممثلين قدرة على تنويع أدواره وتطويع موهبته وأدواته الفنية لصالحه.
وتدور حكاية العرض حول دار للمسنين تجمع عدداً من العجائز اختلفوا في ظروفهم وهمومهم وحتى لهجاتهم حيث يقرر بعض المستثمرين استغلال المكان وتحويله إلى سوق تجاري وإيهام المسنين المقيمين بأنهم سيحظون برفاهية مطلقة لتصل الحكاية إلى النهاية المتوقعة وهي الهدم.
تامر عربيد: العرض ارتجالي ويلامس الواقع بصورة أكبر
ومع تصاعد الأحداث يجد كل ممثل نفسه أمام مرآته فيبوح بسره وعقدة شخصيته التي جعلت منه شيخا يسكن دارا للمسنين مهددة بالإزالة جراء عمليات البناء والإعمار، فتنطلق الحالة الخاصة للشخصية إلى العموم وتكشف عن تراكمات وأحوال مجتمعية يعاني منها العشرات ممن ألقاهم الزمن وأبناؤه بين جدران دور للمسنين آيلة للسقوط والإسقاط.
وجاءت المسرحية بإشراف فايز قزق أشبه بمقترح لحوار شعبي بسيط وواقعي، وأقرب ما يكون لمسرح سعدالله ونوس حيث أعطى الممثلين حرية أكبر لخوض مونولوجات فردية خاطبوا بها جمهورهم وعبروا بها عن أفكارهم ورؤيته للموضوع المطروح.
ورأى عميد المعهد العالي للفنون المسرحية تامر العربيد أن هذا العمل المسرحي يتميز بالكثير من الخصوصية باعتباره يقدم الخريجين لسوق العمل مباشرة ويلامس الواقع بصورة أكبر، مبيناً أن العرض تضمن مشاركة 21 طالباً وهو رقم كبير بالنسبة إلى عروض مماثلة لخريجي السنوات السابقة إضافة إلى كونه ارتجالياً أي أن الفكرة وضعت أمام الطلاب وبني عليها العرض تحت إشراف الفنان قزق.
وفي تصريح مماثل أوضح فايز قزق أن العرض جاء نتيجة التدريب والمنهج العلمي للممثلين والممثلات الشباب عبر سنوات المعهد وباعتباره المشروع الثاني الذي يقوم على الارتجال العلمي بعد مشروع “شارة” الذي عرض في العام 2019، مبيناً صعوبة هذا المنهج والذي يعتمد بالدرجة الأولى على ذكاء الممثل وثقافته.
وبيّن المخرج ورد حيدر أن العرض كان رغم طول مدته الزمنية، ممتعا، قائلا “لا نشعر بالوقت فيه نهائيا، التفاصيل مشغولة بطريقة متقنة من السينوغرافيا إلى الإضاءة، إضافة إلى أن كل ممثل يحمل في أدائه التنوع، وساعدهم في ذلك الإسقاطات القوية الموجودة بالنص”.
وتابع “ثلاث ساعات مشغولة بإتقان وتراوح بين لحظات من الضحك وأخرى من الحزن وتبين قيمة المسرح بحد ذاته وكم نحن في حاجة إليه، فالمتعة التي نحصل عليها في المسرح لا نراها في أيّ مكان آخر”.
ولا يبدو الممثلون في هذا العرض كمن يقص على المتفرج حكاية لا تشبهه، وإنما هي حكاية شديدة الواقعية، تكشف فسادا مشتركا يعاني منه سكان الدار، وفسادا آخر يشوب حياة كل منهم، وعانى منهم طوال رحلة حياته السابقة، سواء مع أهل أو أولاد أو في ممارسته للمهنة، أو في العلاقات الاجتماعية، فالفساد منتشر في كل مكان وزمان، ومهما ادعت الحكومات محاربته، لم تنجح أبدا في وضع حد نهائي له.
وطيلة نحو ثلاث ساعات جسد الطلاب دور شيوخ وعجائز يمثلون شرائح اجتماعية مختلفة، منهم الفقير والغني، المتعلم وغير المتعلم، لكن كل ذلك لم يمنعهم من التعايش مع بعضهم حتى صاروا أسرة لا تفترق، وتعوض كل واحد منهم عن أسرته البيولوجية.
☚ المسرحية بإشراف فايز قزق أشبه بمقترح لحوار شعبي، حيث أعطى الممثلين حرية لخوض مونولوجات فردية
يجتمع “أهل الدار” على طاولة كبيرة، تتوسط المسرح، بالكثير من الألفة ويحكون للمتفرج الكثير من الحكايات والذكريات التي تهاجم كل واحد منهم، ويناقشون معه قرار هدم الدار وتحويلها إلى مساحة تجارية كبرى، ويعبرون له عن غضبهم من هذه الممارسات الحكومية المستفزة، التي تحدث على أرض الواقع، ولا تحدها خشبة المسرح فقط، فالمسؤولون في هذه الحكومات صاروا يثمنون الربح المادي ولا يأبهون لمصائر البشر.
يذكر أن العرض من تمثيل أحمد حمودة وآدم الشامي وآية آغا وجوان لباد وجيانا عيد ودرويش عبدالهادي ورزان نعوف ورياض نحاس وزين العابدين مريشة وسارة بركة وعلي سليمان وعمر بدران وغفران هواري وفوز عليا وكرم شنان وكنان كريدي ومرهف الكراد ومحمد غيث الأدهمي ووسام رضا ويارا خوري وياسمين الجباوي مع مشاركة لطلاب السنوات السابقة.
وفايز قزق هذا الأستاذ الذي أشرف على تأطير الطلبة واختار لهم موضوعا يبين الخبرة التي اكتسبوها من التأطير الأكاديمي والممارسة المهنية، وهو ممثل ومخرج ومؤلف سوري. تعود أصوله إلى محافظة اللاذقية، وهو خريج «المعهد العالي للفنون المسرحية» عام 1981 مارس التمثيل المسرحي ثم احترف الإخراج منذ عام 1988، حاصل على شهادة عليا في إعداد وتدريب الممثل المسرحي من «كلية الروز بروفيلد» في بريطانيا، وعلى شهادة الماجستير في الإخراج المسرحي من «جامعة ليدز».
وجاءت شهرة قزق العربية، وانطلاقته المهنية في عالم السينما والتلفزيون من خلال مشاركته في فيلم رسائل شفهية عام 1991، تأليف وإخراج عبداللطيف عبدالحميد في ثاني أفلامه مع مؤسسة السينما في سوريا. في ذلك الفيلم قدم قزق شخصية كوميدية (إسماعيل) مع رنا جمول (سلمى)، وهو رجل يحب ابنة قريته لكنه لا يستطيع أن يعبّر لها عن ذلك الحب.
ويعرف عن قزق الأستاذ أنه يدرس شخصياته المسرحية دراسة تفصيلية، لأن التمثيل بالنسبة إليه ليس فقط فنا وإنما هو علم له قواعد ودون هذه القواعد يبدو الفنان خاويا لا يحمل أيّ فلسفة، وهو بالإضافة إلى ذلك لا يؤمن بما يضاف إلى الممثل من مكياج وملابس ومسائل تقنية خاصة بالإخراج بشقيه السينمائي والتلفزيوني إلاّ كعوامل إضافية لا كعوامل تحريضية، كما أن مسألة النجومية لا تعنيه كثيرا.
ويفترض هذا الأكاديمي أن تكون السنوات الأربع من الدراسة الأكاديمية عاملا إضافيا لتقوية البحث في مسألة اشتقاق مخلوق من إعداد، فالشخصية التي تقدم سواء في المسرح أو التلفزيون أو حتى في الإذاعة على مستوى الصوت، يفترض أن تكون هناك أُسس لدراستها، وهذه الأمور مألوفة في السينما والمسرح من خلال بروفات الطاولة، ومن هذه البروفات اجتمع الممثلون هذا العام على “طاولة” واحدة، كشفت الكثير من المعاناة الواقعية للمسنين، لكنها قدمت للمتفرجين ثلة من ممثلين جدد يراهن قزق على أنهم سيصبحون ذات يوم أسماء لامعة في عالم التمثيل.