زغاريد الباكالوريا

مازال النجاح في امتحان الثانوية العامة والحصول على شهادة “الباكالوريا”، كما كان دوما منذ الاستقلال، حدثا محوريا في حياة الفرد والأسرة في تونس.
تغيرت الطرق التي تزف بها بشرى النجاح ولكن الفرحة هي نفسها. منذ صباح الإعلان عن النتائج تختلط الزغاريد بأصوات منبهات السيارات لتنشر الأمل والبهجة بين الناس.
لحظة الفوز بالباكالوريا يمتزج فيها الاحتفال بالنجاح الدراسي بالتوق إلى دخول الأبناء والبنات مرحلة جديدة في الحياة بعد التخرج.
لم يكن مفاجئا أو غريبا في نهاية الأسبوع الماضي أن تتصدر أخبار الباكالوريا وأفراحها كل المواضيع على المنصات الاجتماعية والإذاعات التونسية يوم الإعلان عن النتائج، حتى في يوم طغت فيه مجددا أخبار الإرهاب وقضايا غسيل الأموال.
كان التركيز الإعلامي على تكريم المتفوقين والمتفوقات من خلال سرد مراحل تدرجهم نحو النجاح والاستماع لهم يصفون رؤيتهم للمستقبل.
كانت لافتة نسبة الفتيات بين الناجحين، حيث تجاوزت 61 في المئة مقابل 38 في المئة لدى أقرانهن الذكور.
كانت الأحلام في كلام الجميع بلا حدود. ولكنها ورغم عبارات الحب للأهل والأصدقاء، كانت أحلاما مشرعة على الخارج.
لم يخف أغلبية الحاصلين على معدلات متميزة رغبتهم في الدراسة بالخارج مهما كان الاختصاص، سواء كان ذلك في مجالات الهندسة أو التكنولوجيا أو الطب أو حتى الموسيقى.
ليس هناك من يصدق الوعود بأن الأوضاع ستتحسن قريبا، بعد أن استمرت مشكلة عدم تكافؤ الفرص لعقود وسنين دون حل. يكاد يكون ذلك الوضع بإجحافه هو الوضع الاعتيادي
اليوم أصبحت الرغبة في الدراسة بالخارج مسارا عاديا يتفهمه ويتوقعه المجتمع.
وهو مسار يجمع المتفوقين وغير المتفوقين. هناك الكثير من الناجحين الذين لا تسمح لهم أعدادهم في الامتحانات بأن يتم توجيههم نحو ميادين التخصص الجامعي التي يرغبون فيها، يبدأون مسيرة البحث عن الجامعات الأجنبية حتى قبل الحصول على الباكالوريا.
مسار الهجرة يستبطنه التلاميذ وعائلاتهم مبكرا نتيجة الخوف من الآفاق المحدودة بعد التخرج من الجامعة. الجميع أصبح يعرف أن الشهادة الجامعية لا تضمن العثور على شغل مناسب، اعتبارا للقطيعة المتواصلة بين مناهج التعليم العالي وسوق الشغل وكذلك نظرا إلى السقف العالي للطموحات لدى الشباب.
منذ الاستقلال شكل دخول الجامعة طريق الكثير من الطلبة للخروج من المناطق الداخلية المهمشة والعيش في العاصمة. كان ذلك يمثل للبعض من شباب الريف طريقا للتحرر من ربقة تقاليد المجتمع المحافظ.
تغير الكثير منذ ذلك الوقت وتعممت المؤسسات الجامعية على العديد من المحافظات. غير أن باب الجامعة بقي موصدا بدرجات متفاوتة أمام المرشحين والمرشحات لنيل الباكالوريا حسب الجهات التي ينتمون إليها. خلافا لوعود الحكومات لم تكن الطريق إلى الجامعة سالكة للجميع. وأظهرت نتائج يونيو 2022 أنها لا تزال كذلك.
شكلت معدلات النجاح في الباكالوريا حسب المحافظات صورة غير متوازنة لأداء المنظومة التربوية في البلاد.
بالنسبة إلى هواة رسم الخرائط الاجتماعية، ظهر التمايز بين في شكل هلال جغرافي يشمل معظم محافظات الساحل الشرقي للبلاد الذي تتركز فيه نسب النجاح في الباكالوريا بنِسَب تتجاوز 50 في المئة تقريبا وتتدنى فيه المعدلات في محافظات الداخل.
وقد كان أقصى فارق في النسب بين محافظة صفاقس الفائزة بالمرتبة الأولى (بنسبة نجاح تفوق 60 في المئة) ومحافظة القصرين في الوسط الغربي (حيث لم تتجاوز نسبة النجاح في الباكالوريا 23 في المئة).
السلطات ذاتها اعتبرت هذا التفاوت “غير مقبول” ووعدت بالتحرك من أجل جسر الهوة مستقبلا بين مناطق البلاد على صعيد الأداء التربوي. وأشارت إلى حصول بعض التحسن في معدلات النجاح في محافظات جنوبية مثل قابس ومدنين.
ليس هناك من يصدق الوعود بأن الأوضاع ستتحسن قريبا، بعد أن استمرت مشكلة عدم تكافؤ الفرص لعقود وسنين دون حل. يكاد يكون ذلك الوضع بإجحافه هو الوضع الاعتيادي.
تعزو وزارة التعليم تفاوت نسب النجاح إلى عدم استقرار الكوادر التربوية في المناطق الداخلية. ولكن ذلك جانب فقط من معضلة أوسع تتعلق بالمنوال التنموي السائد حيث تتقاطع خارطة التأخر الدراسي مع خارطة التخلف التنموي، إن لم تكن تتطابق معها، مع بعض الاستثناءات القليلة.
مسار الهجرة يستبطنه التلاميذ وعائلاتهم مبكرا نتيجة الخوف من الآفاق المحدودة بعد التخرج من الجامعة. الجميع أصبح يعرف أن الشهادة الجامعية لا تضمن العثور على شغل مناسب
لا يجد الكادر التربوي في الكثير من المناطق الداخلية الفقيرة بنية تحتية مناسبة للعمل والإقامة والسكن يمكن أن تسمح له بالاستقرار حتى إن هو أراد ذلك.
والتلميذ في هذه المناطق يضطر أحيانا لقطع الكيلومترات مشيا على الأقدام كل يوم للوصول إلى المدرسة.
ويجد في محيطه العائلي والاجتماعي المباشر أكثر من دافع للانقطاع عن الدراسة قبل انتهاء تعليمه.
يجد التلميذ والتلميذة نفسيهما في بيئة غير صديقة للتعليم والتنشئة، وذلك مهما كان اجتهادهما وتصميمهما على النجاح.
ولكن هناك، التفاوت التنموي لا يفسر ولا يبرر كل شيء. وتبقى حالات التفوق كثيرة في المناطق المعوزة وهي بذلك تقدم دليلا على قدرة الفرد على التميز رغم كل المصاعب.
هذا صحيح، ومهما كانت العوائق الناتجة عن السياسات الحكومية الفاشلة فإن التأسيس لقيم الكد والعمل (وليس البحث عن الربح السهل أو الغش في الامتحانات) يبقى ضرورة ملحة من أجل تكوين جيل جديد تحدوه روح الإنجاز والمبادرة. وغرس هذه القيم دور يمكن أن يلعبه الفرد والأسرة إلى جانب المجتمع المدني وليس فقط الدولة.
ولكن مشكلة التفاوت في الحظوظ بين التونسيين حسب انتمائهم الجغرافي، سواء في التعليم أو في ظروف العيش أو حتى في الحلم بمستقبل أفضل، محدد أساسي لا يمكن غض الطرف عنه.
وسيبقى الإحساس بالضيم الناتج عن هذا التفاوت مصدرا للاحتقان وعدم الاستقرار إن لم يعالج.
وإنك عندما تستمع إلى المتفوقين في الباكالوريا يتحدثون عن آمالهم وطموحاتهم تحس بأن هناك تونس أفضل ممكنة للجميع. تونس يبنيها شبابها من الجنسين بغض النظر عن انتمائهم الجهوي.
وأتذكر في هذا الصدد صديقا عربيا تستهويه تونس كثيرا ويقول عنها دوما إنها أهل لما هو أحسن.
نفس القناعة يحملها الشباب التونسيون الصاعدون أيضا. ولكن هؤلاء الشباب في طموحهم إلى الأفضل لن ينتظروا طويلا قبل أن يشدوا رحالهم إلى الخارج، إن طال الانتظار أو عسر المنال.
لن ينتظروا حتى يمتلك الساسة ما يكفي من الحياء والشجاعة ليغلّبوا المصلحة العامة على حساباتهم الضيقة.
ولن تنتظر أوروبا وأميركا ذاتها طويلا حتى تستقطبا هؤلاء الشباب الصاعدين وتسبغا عليهم العناية وتمنحاهم الأجنحة كي يطيروا.