لو كنت أنت رئيسا لروسيا، فماذا ستفعل

روسيا تريد من موقعها الاقتصادي والسكاني أن تفرض معادلات استراتيجية جديدة وإقامة نظام دولي جديد تتقاسم فيه الصدارة مع الولايات المتحدة.
الأحد 2022/06/26
هوس بالقوة العسكرية

تبلغ مساحة روسيا 17 مليون كيلومتر مربع. إنها أكبر بلد في العالم. وتحتل بمفردها ثُمن مساحة الأرض المأهولة بالسكان. ما يعني أنها ليست بحاجة إلى المزيد من الأراضي لكي تذهب فتحتل دولا أخرى. حتى ولو كانت تلك الدول خاضعة، في يوم من الأيام، للإمبراطورية القيصرية أو الإمبراطورية السوفياتية، لاسيما وأن عهد الإمبراطوريات التي تسيطر على الأراضي أصبح قصة من عالم الديناصورات الآن. ويفترض أن عالم الديناصورات قد انقضى من روسيا.

وعلى تلك الأرض الشاسعة، يبلغ عدد سكان روسيا 144 مليون نسمة. أي أن كل 8.4 أشخاص يمكنهم العيش على نحو كيلومتر مربع واحد، أو ما يقارب مساحة ملعبين لكرة القدم. وفقط على سبيل المقارنة، فإنه يعيش في قطاع غزة مليونا إنسان على مساحة 365 كيلومترا مربعا، أي أن كل شخص لديه 5.4 متر مربع ليتحرك فيها. أو ما يعادل مساحة غرفة واحدة.

ذات يوم سُئل الرئيس فلاديمير بوتين: “ما هو الشيء الذي يقلقك أكثر من غيره؟”، قال: “عدد السكان”.

Û عندما تنظر إلى روسيا بوشكين ودوستويفسكي وتولستوي وغوركي وتشايكوفسكي والمئات غيرهم، سوف تعرف كم أن هذا البوتين غريب عن بيئته

ومعه حق. ففي بلد على هذه المساحة يمكن أن يعيش أكثر من 500 مليون نسمة، مقارنة بمساحة الولايات المتحدة البالغة 9.8 مليون كيلومتر مربع وعدد سكانها البالغ 335 مليون نسمة. أي أكثر من ثلاثة أضعاف ما لديه الآن.

ولو أنه تم تدمير كل إقليم دونباس، بحيث لا يبقى فيه حجر على حجر ولا يعود قادرا على احتواء سكان، فإن روسيا سوف تضيف نحو 4 ملايين نسمة إلى عدد سكانها. وهو ما لا يساوي كلفة القنابل والصواريخ والقذائف التي يجري صبها، مثل سيول المطر، على مدن هذا الإقليم. كما لا يساوي عشر معشار كلفة الاضطراب الناجم عن العقوبات أو المنعطف السياسي والاستراتيجي الذي يدفع إلى عزل روسيا عن أوروبا وبقية العالم الغربي.

روسيا، بكلفة أقل، كانت تستطيع أن تستوعب تدريجيا ما لا يقل عن 50 مليون مهاجر من مختلف أرجاء العالم، وتعيد تأهيلهم (تعليم اللغة مع بعض المؤهلات الحيوية الأخرى) ليصبحوا في غضون أقل من 5 سنوات مواطنين منتجين، منخرطين في سوق العمل والإنتاج. إلا أن روسيا لم تستقبل حتى المهاجرين السوريين الذين هدمت بيوتهم على رؤوسهم.

وبحسب أدنى التقديرات، فإن روسيا خسرت في غضون ثلاثة أشهر نحو 15 ألف جندي بعمر الورود في الحرب الدائرة في أوكرانيا. أي 5 آلاف جندي كل شهر. ولو استمرت الحرب لعام واحد، فإن حجم الخسائر سوف يرتفع، نظريا على الأقل، إلى 60 ألف جندي. أو نحو ربع إجمالي عدد أفراد القوات البرية الروسية.

ويبلغ معدل النمو السكاني في روسيا ناقص 0.2 في المئة، أي أن الولادات أقل من الوفيات بمقدار 28 ألف شخص في السنة.

وبينما يبلغ متوسط الأعمار في روسيا 73 سنة، فإن متوسط الأعمار في الولايات المتحدة يبلغ 77 سنة. أي أن الأميركيين يعشون أطول من نظرائهم الروس بأربعة أعوام. وهم يعملون أكثر أيضا، إذ يبلغ سن التقاعد للرجال في الولايات المتحدة 65 عاما، بينما سن التقاعد في روسيا للرجال يبلغ 60 عاما.

Û بوتين مهووس بشيء غير طبيعي. ولا يصلح أن يقود بلدا عظيما مثل روسيا. ولديه هواجس ديناصورية لم يعد يتسع لها عالم اليوم

وفي حين يبلغ نصيب الفرد الأميركي الواحد من الناتج القومي 65 ألف دولار سنويا، فإن نصيب الفرد الروسي من الناتج القومي لبلاده يبلغ 11 ألف دولار متخلفا في المرتبة على دول، هي على التوالي أستراليا (54 ألف دولار) وألمانيا (46.5) وكندا (46) وفرنسا (41.6) وبريطانيا (40.8) واليابان (40.3) وإيطاليا (32.9) وكوريا الجنوبية (31.8) والسعودية (23.2)، ما يجعل روسيا في الجزء الأدنى من سلم مجموعة العشرين، وفقا لهذا المعيار.

وحتى العام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفياتي، فإن روسيا لم تكن قوة اقتصادية ذات وزن على المستوى العالمي. وعدا عن الأصول الضخمة التي استولى عليها “الأولغارشيا” الروس، فإنها ما كانت لتنهض من عثرتها الطويلة من دون دخولها عالم الاقتصاد الرأسمالي الذي تتصدره الولايات المتحدة، أو من دون الاستثمارات الغربية الضخمة التي ظلت تتقاطر على روسيا حتى بلغت أكثر من تريليوني دولار. وبسبب هذا الانخراط المتبادل، أصبحت روسيا عضوا في مجموعة الثمانية. وذلك في دلالة على رغبة القوى الاقتصادية الغربية الكبرى في اعتبار روسيا جزءا منها. ولكن أول ما شعرت موسكو بقيادة بوتين ببعض الانتعاش حتى قامت بغزو شبه جزيرة القرم في العام 2014، ما أدى إلى طردها من هذه المجموعة، بسبب المشاعر الدولية بأنها خانت الثقة، واستخدمت القوة العسكرية لفرض تعديل على الخرائط.

وتنظر روسيا إلى نفسها كقوة عظمى. وتريد، من موقعها الاقتصادي والسكاني هذا، أن تفرض معادلات استراتيجية جديدة، كما تريد إقامة نظام دولي جديد تتقاسم فيه الصدارة مع الولايات المتحدة. ولا أظنك، أيها القارئ، سوف تجد ذلك مقبولا، لو كنت أنت رئيس الولايات المتحدة، حتى من دون حرب. فكيف بمحاولة اغتصاب هذه المكانة عن طريق الحرب، على الأقل لأنه طموح لا يتوافق مع الأرقام.

تفيد هذه الأرقام في البحث عن جواب لسؤال بسيط: لو كنت أنت، أيها القارئ، رئيسا لدولة مثل روسيا، وتريد أن تتحدى الولايات المتحدة، ونظامها الدولي، فماذا كان يجب عليك أن تفعل؟

أستطيع أن أكون على أتم الثقة، بأن الشيء الأول الذي ستفكر فيه، سيكون هو نفسه الذي يقلق الرئيس بوتين. ولكنك سوف تعالجه بطريقة مختلفة تماما.

سوف تعرف، أيها القارئ، أنك أفضل من فلاديمير بوتين بكثير من حيث مستوى التفكير. سوف تعرف أيضا، أن القصة الأهم بالنسبة إليك ليست قصة توسيع أراضي الإمبراطورية الروسية لتشمل أوكرانيا وجورجيا ولاتفيا وغيرها، وإنما كيف تجعل روسيا أقوى اقتصاديا، وتحتل مرتبة أعلى في معدلات حصة الفرد من الناتج الإجمالي. وكذلك في معدلات الرفاهية والاستقرار والخدمات والتعليم والتقدم التكنولوجي.

لا شك أنك سوف تدرك أن القوة العسكرية ليست هي القوة الأساس لتغيير المعادلات والأدوار على المستوى الدولي، وإنما القوة الاقتصادية، وحسن النموذج السياسي، والريادة الأخلاقية ربما، لاسيما وأن منافسيك الدوليين يمتلكون القوة العسكرية والاقتصادية، ولكنهم عديمو الأخلاق عندما يتعلق الأمر بمصالح دولهم. وبالتالي، فإن آخر شيء يمكن أن تفعله هو أن تبرر غزوك لأوكرانيا وجرائمك فيها، بأن الولايات المتحدة غزت العراق وارتكبت جرائم هناك. وهو ما يوازي القول: بما أنكم وحوش ومجرمون، فنحن أيضا نريد حصتنا من الوحشية والجريمة. وهذا شيء ليس عديم الأخلاق فحسب، ولكنه عديم الحس الإنساني أيضا. ويكشف عن موت المشاعر، وتجمد الجريمة في العروق. ولكن هذا ما دافع به وزير خارجية بوتين عن غزو أوكرانيا، على أي حال.

لا أريد أن أسارع إلى القول إن بوتين مصاب بخلل عقلي. ولكن مطالعة هذه الأرقام، وملاحظة ما تفعله قواته في أوكرانيا، سوف يقدم لك دليلا أكيدا على أنه بحاجة إلى الذهاب فورا إلى المستشفى لتلقي العلاج. وذلك لأن كل يوم يمضيه في منصبه يعني 166 قتيلا من جنوده، وضعفهم أو أكثر من الجنود والمدنيين الأوكرانيين.

الخلل يتضح أكثر عندما تعرف ما هي صورة أوكرانيا بالنسبة إلى الروس، أو ما هي صورة روسيا بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الأوكرانيين قبل اندلاع الحرب.

الروس والأوكرانيون يعتبرون أنفسهم أسرة واحدة. ولديهم امتداد ثقافي واحد. ما يجعل الحرب، بهذا المستوى من الوحشية، شيئا يتجاوز كل منطق، ولا يمكن تصديقه أصلا.

لا شك أنك، أيها القارئ، سوف ترى بوضوح أن هذا الرجل مهووس بشيء غير طبيعي. ولا يصلح أن يقود بلدا عظيما مثل روسيا. وأن لديه هواجس ديناصورية لم يعد يتسع لها عالم اليوم. وهو ليس قمينا بها اقتصاديا ولا اجتماعيا. وإنه يتحكم بقوة نووية، ويتلاعب بها، مثل مراهق أرعن، ويمكن أن يتسبب بكارثة كونية في أي وقت. بل أن هناك بين أنصاره من يشجعه على الرعونة، ويتخيل بالنيابة عنه، كيف سوف يتم محو بعض البلدان، مثل بريطانيا، من على وجه الأرض بضربة نووية واحدة.

ومثل كل حرب أخرى، فإنها ترفع معدلات الهستيريا إلى مستويات غير مسبوقة. فإذا ما تولى قيادتها شخص مصاب بلوثة عقلية، فبوسعك أن تتخيل أنه قادر على فعل كل شيء وأي شيء.

عندما تنظر إلى روسيا بوشكين ودوستويفسكي وتولستوي وغوركي وتشايكوفسكي والمئات غيرهم، سوف تعرف كم أن هذا البوتين غريب عن بيئته.

لا شك أنه ممثل بارع، بحيث يوحي لبعض الناس أنه عبقري وعطوف وأليف وناعم أكثر من قط وديع. إلا أنه ليس كذلك. إنه بكل بساطة “سايكوباث” يحتاج إلى أن يُحاط بعشرة ممرضين أشداء، لإجباره على تلقي العلاج، أو لوضعه في قفص لا يخرج منه أبدا.

6