هل تصدر الصحف الأميركية دون مقالات رأي مستقبلا

الجرائد لم تعد تتحكم في الرأي العام فيما الآراء تفيض في وسائل التواصل الاجتماعي.
الثلاثاء 2022/06/14
إعادة تشكيل الصناعة

عملاق الإعلام  الأميركي “غانيت” -ناشر أكثر من 250 صحيفة في الولايات المتحدة- يقرر تقليص مقالات الرأي لأن “القراء فقدوا ثقتهم في الصحف، كما أنهم لا يريدون أن يخبرهم أحد بما يجب أن يفكروا فيه”.

واشنطن - قرر عملاق الإعلام الأميركي “غانيت” (Gannett) ناشر مئات الصحف في جميع أنحاء البلاد الحد من صفحات الرأي في محاولة لدحض الفكرة الشائعة التي تفيد بوجود تحيز سياسي.

وترى أكبر سلسلة صحف في البلاد أن صفحات الرأي الخاصة بها تنفّر القراء وأصبحت متقادمة. وبدأت الصحف المملوكة لشركة “غانيت”-ناشرة صحيفة “يو.أس.أي. توداي” وأكثر من 250 صحيفة يومية أخرى- في تقليص أقسامها التحريرية بشكل جذري وإعادة تصورها، ونشرها في أيام أقل كل أسبوع وإسقاط السمات التقليدية مثل الأعمدة المشتركة والرسوم التحريرية. حتى التأييد والرسائل السياسية للمحرر يتم تقليصهما.

وأكدت صحيفة واشنطن بوست الأميركية أن  الشركة كانت تضغط من أجل هذه التغييرات لسنوات، وقد أصبحت مرئية للقراء بشكل متزايد منذ أن أوصت لجنة من المحررين رسميًا في اجتماع خلال أبريل الماضي بأن “القراء لا يريدوننا أن نقول لهم ما يجب أن يفكروا فيه”. وأعلن المحررون -الذين يأتون من غرف أخبار “غانيت” في جميع أنحاء البلاد- في عرض داخلي “أنهم (القراء) لا يعتقدون أن لدينا الخبرة لإخبار أي شخص بما يفكر فيه بشأن معظم القضايا. إنهم يرون أن لدينا أجندة متحيزة”. وقالت اللجنة إن المقالات الافتتاحية وأعمدة الرأي ليست فقط “من بين المحتويات الأقل قراءة لدينا”، ولكن “كثيرًا ما يستشهد بها القراء” كسبب لإلغاء اشتراكاتهم.

ريتشارد كيرتس: الإدارة الأميركية كانت دائما قادرة على حشد التأييد لكل مواقفها في المقالات الافتتاحية في الصحف

بينما تقول “غانيت” إن التوصيات ليست إلزامية وإن معظم صحفها لا تزال تحتوي على صفحات تحريرية وتعليقات، إلا أن أربعًا من صحفها على الأقل قللت من عروض آرائها اليومية في الأيام الأخيرة. ومن المتوقع أن تحذو حذوها صحف أخرى.

وأعلنت صحيفة “أريزونا ريبابليك” الأسبوع الماضي أنها ستنشر قسمًا للرأي في نسختها المطبوعة ثلاثة أيام فقط في الأسبوع حتى تتمكن من “إعادة تركيز وقتنا وجهودنا على تسهيل حوار أعمق حول القضايا الرئيسية التي تؤثر على سكان أريزونا”. وبالمثل صرحت “كيب كود تايمز” المملوكة لـ”غانيت” في ماساتشوستس و”تريجر كوست بالم” في فلوريدا الأسبوع الماضي أنهما ستنشران صفحات افتتاحية يومين فقط في الأسبوع، بينما ستنشر صحيفة “نيو بارن سان جورنال” في نورث كارولينا افتتاحية يوما واحدا في الأسبوع.

وبدأت صفحات الرأي بالظهور على نطاق واسع في الصحف الأميركية في القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين قامت معظم الصحف ببناء مدونة أخلاقية حولها، بما في ذلك جدران الحماية لمنع كتاب أعمدة الرأي والمحرّرين من التأثير على المراسلين الإخباريين ومحرري الأخبار الذين يعملون غالبًا في نفس المبنى. في حين أن الصحافيين العاملين في جانب الأخبار لا يُشجعون عمومًا على مشاركة آرائهم حول الموضوعات التي يقومون بتغطيتها، ويمكن لنظرائهم من جانب الرأي استكمال تقاريرهم بالتحليل والتعليق والتأييد السياسي والتعليقات الساخنة المؤسفة أحيانًا على وسائل التواصل الاجتماعي.

ومع ذلك، جادلت لجنة “غانيت” بأن النموذج التقليدي مربك للقراء. وتشمل توصياتها تقليص عدد المقالات الافتتاحية “غير الموقعة” التي لا يذكر كتابها، وتقييد التأييد السياسي.

وفي الحقيقة هناك تداخل مؤسسي بين الإعلام والدولة في الولايات المتحدة، يشف عن تحيز سياسي شديد.

كما يقول ريتشارد كيرتس -الذي عمل لأكثر من ثلاثين عاما في وزارة الخارجية وفي وكالة الإعلام الأميركية، وذلك في كتابه “صورة متغيرة” (A CHANGING IMAGE)- “إن الإعلام المقروء لا يزال المصدر الرئيسي للمعلومات بالنسبة إلى قادة الولايات المتحدة والذين يصنعون توجهات الرأي العام. وإن الإدارة الأميركية كانت دائما قادرة على حشد التأييد في المقالات الافتتاحية لمواقفها من مختلف القضايا. كما أن الصحافة الأميركية كانت -تاريخيا- مرآة تعكس المجتمع في أميركا. ثم جاء التلفزيون ليصبح الوسيلة الأولى والأكثر تأثيرا في تشكيل الرأي العام تجاه القضايا الخارجية. ولهذا لوحظ أن الصحف الكبرى عادة ما تتخذ مواقف تجاه دول، والحكومة لا تريد أن تظهر في صورة أنها هي صاحبة هذه المواقف”.

"غانيت" تعيد ترتيب أروقة أخبارها
"غانيت" تعيد ترتيب أروقة أخبارها

ومن المرجح أن تتم مراقبة التوصيات عن كثب من قبل مالكي الصحف الآخرين. وقال ريك إدموندز محلل الصناعة في معهد بوينتر -وهو مؤسسة صُحفية- “إن ‘غانيت’ التي يقع مقرها في ماكلين بولاية فيرجينيا تمتلك حوالي 1 من كل 5 صحف يومية في البلاد وغالبًا ما تكون رائدة”.

ويذكر أن الصحف الأميركية ألغت منذ فترة طويلة السمات التي كانت شائعة مثل جداول أسعار الأسهم وقوائم البرامج التلفزيونية في مواجهة قلة عدد المشتركين وانخفاض عائدات الإعلانات، وألغى البعض الإصدارات المطبوعة بالكامل لتوفير المال. وأسقطت بعض الصحف الصغيرة صفحات الرأي تمامًا.

ولدى “غانيت” الكثير من حوافز البحث عن أي مدخرات يمكن أن تجدها. وقد أدى اندماجها مع “غايت هاوس ميديا” (GateHouse Media) في عام 2019 إلى تكوين صحيفة عملاقة، لكنها أرهقت الشركة الموسعة بالديون تمامًا خاصة بعد انتشار جائحة كورونا. وخسرت الشركة 670 مليون دولار من مبيعات بلغت 3.41 مليار دولار في عام 2020.

وتقول “غانيت” إن أبحاثها الداخلية -التي تشمل استطلاعات القراء بشكل أساسي- تشير إلى أن المقالات الافتتاحية وأعمدة تعليقات الضيوف ومقالات الرأي والرسائل الموجهة إلى المحرر قد فقدت أهميتها في عصر تفيض فيه الآراء على وسائل التواصل الاجتماعي. وغالبًا ما لا يستطيع القراء الأصغر سنًا التمييز بين التقارير الإخبارية والآراء، خاصة عبر الإنترنت، حيث تظهر القصص خارج الأقسام التقليدية. والأسوأ من ذلك أنه غالبًا ما يعتقد القراء خطأً أن القصص الإخبارية تمليها جهة التحرير في الصحيفة. وتعتقد أبحاث “غانيت” أن  الوقت قد حان للخروج من التأييد الرئاسي.

صحيفة "أريزونا ريبابليك" تعلن أنها ستنشر قسمًا للرأي في نسختها المطبوعة ثلاثة أيام فقط في الأسبوع

ووافقت صحيفة “ريبابليك” التي مقرها فينيكس بالفعل على هذا الاقتراح. وتوقفت عن تقديم التأييد في عام 2020، بعد أربع سنوات من تصدرها عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم لتأييدها مرشحة ديمقراطية للرئاسة (هيلاري كلينتون) لأول مرة في تاريخها البالغ 126 عامًا.

وتعكس التغييرات الموصى بها رغبة “غانيت” في التركيز على القضايا المحلية وفي أن تكون بمثابة “ساحة عامة” للقراء، كما قال مايكل أناستاسي محرر صحيفة “تنيسيين”، المملوكة لشركة “غانيت” في ناشفيل والمؤلف الرئيسي لتوصيات الشركة. وهو يقترح أن الصحف يمكن أن تلعب دورًا بناءً أكثر من خلال دعوة الخبراء المحليين إلى التعبير عن آرائهم في أعمدة الضيوف، بدلاً من التأكيد بشكل روتيني على الصوت المؤسسي للصحيفة.

ويعتقد البعض الآخر أن التخلص من الافتتاحيات سيكون خطأ.

وذكر راندي بيرجمان -الذي تم تسريحه في عام 2020 بعد 18 عامًا على رأس الصفحة الافتتاحية لصحيفة “آسبوري بارك برس” في نيوجيرسي- في مقابلة أنه حاول إقناع “غانيت” بعدم القيام بذلك من خلال مذكرة. وقال “لقد جادلت بأن قيادة الرأي هي إحدى أهم وظائف الصحيفة”، مستشهداً بالسياسيين الذين كانوا يتصلون به وغيره من الكتاب لمناقشة افتتاحيات جريدته. وأضاف “لقد رأيت تأثير الافتتاحيات التي كتبتها”.

وقالت كريستين ديلجوزي -محررة الرأي في “يو. أس. أي. توداي”- “إن تغيير هذا المزيج، وفي بعض الحالات التخلص من سمات الرأي التقليدية، قد يكونان وسيلة لمواكبة القراء المعاصرين”. وتابعت “هذا جزء من التطور الشامل لصناعتنا”، وأضافت “صفحات الرأي تبدو وكأنها آخر جزء من غرفة الأخبار سيشمله التطور”.

16