شح التمويل والتكاليف الباهظة يقوضان الزراعة بالسودان

تجمع أوساط المزارعين في السودان على أن القطاع يواجه تحديات شاقة أكبر من أي وقت مضى في طريق التأقلم مع مناخ أعمال متذبذب، زاد من تكبيله شح التمويلات والتكاليف الباهظة لمدخلات هذا النشاط الحيوي، ببلد لطالما شكل سلة غذاء المنطقة العربية.
الجزيرة (السودان) - انتشرت مظاهر تخلي المزارعين في السودان عن استغلال مساحات من أراضيهم جراء قلة الدعم وارتفاع أسعار المواد الأولية التي تدخل في عمليات الإنتاج، مما فاقم المخاوف المتعلقة بالأمن الغذائي.
وكان من المفترض أن يكون المزارعون في السهول الطينية الخصبة في مشروع الجزيرة قد بدأوا منذ أسبوع في حراثة التربة، قبل أن ينثروا صفوفا من بذور الذرة الرفيعة والفول السوداني والسمسم وغيرها من المحاصيل التي توفر لهم السيولة النقدية.
وبدلا من ذلك تُركت مساحات شاسعة من المشروع الضخم جنوب العاصمة الخرطوم، الذي يضم قرابة تسعة كيلومترات مربعة، دون زراعة في بلد يعاني من تفاقم الجوع بشدة.
ويقول مزارعون إن الحكومة، التي حُرمت من تمويل دولي بمليارات الدولارات منذ أكتوبر الماضي، لم تتمكن من شراء القمح منهم بالشروط المتفق عليها في وقت سابق هذا العام. وهذا يعني أنهم لا يملكون المال للإنفاق على زراعة المحصول الجديد.

عمر مرزوق: التمويلات غير متوفرة الآن سواء الحكومية أو الخاصة
وزادت الحرب في أوكرانيا من تعقيد المشكلة، حيث تسببت في رفع أسعار مدخلات الزراعة مثل الوقود والأسمدة إلى مستويات قياسية.
وهذا يعرّض محاصيل الموسم الحالي والمواسم القادمة للخطر في بلد تدهورت فيه معيشة الناس، وليس من الواضح كيف ستتمكن الحكومة من استيراد السلع الغذائية المكلفة من الخارج، لكن وزارة المالية قالت لرويترز إنها تبذل جهودا لتوفير المال اللازم.
وذكرت الوزارة في بيان الثلاثاء الماضي أنها التزمت بشراء ما يصل إلى 300 ألف طن من القمح و200 ألف طن من الذرة الرفيعة بقيمة تزيد على 300 مليون دولار، وتسعى للحصول على تمويل من البنك المركزي.
ويصف العاملون بالمشروع الوضع بأنه بائس، وأغلبهم أعرب عن خوفه من الإفلاس أو حتى السجن لعدم سداد ديونه.
وقال نزار عبدالله إنه أخذ قروضا على أساس أن الحكومة ستشتري قمحه بسعر 43 ألف جنيه (75.4 دولارا) للكيس الواحد، بحسب ما تم الاتفاق عليه العام الماضي.
لكن العشرات من هذه الأكياس، التي يزن الواحد منها مئة كيلوغرام والتي كان يفترض أن تباع في مارس الماضي، مخزنة الآن تحت سقف يتسرب منه الماء. وإذا تلف محصوله لن يكون لديه ما يبيعه لسداد ديونه.
وقال أحمد عبدالماجد، وهو مزارع آخر في الجزيرة، “إن هذا الموسم مهدد بالانهيار تماما. فالناس لا تزرع سوى ما بين 50 و70 في المئة، وبذلك يبقى المواطن في مشكلة لتحصيل قوته”.
ويواجه مزارعو ولاية القضارف الشرقية مشكلات مماثلة، حيث كانت تُزرع معظم الذرة الرفيعة (السرغوم)، وهو محصول الحبوب التقليدي في البلاد.
وقال مزارع، طلب عدم الكشف عن هويته، “نشتري السماد والوقود بأسعار عالية وعندما نستعد لبيع محصولنا لا نجد سوقا، وبذلك تكون الدولة قد جوعتنا”.
ووفقا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة “فاو” المنشور في مارس الماضي، ارتفعت تكلفة الوقود بأكثر من 6500 في المئة في 2021 بمقارنة سنوية.
وتعود مشكلات المزارعين إلى سنوات، فهي ترتبط بأزمة اقتصادية بدأت في عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، وبإصلاحات في نظام الدعم انتهجتها الحكومة الانتقالية وبضغوط عالمية على التكاليف بدأت أثناء الوباء.
وفي 2021 لم يتمكن البنك الزراعي الحكومي، والذي ظل يدعم المزارعين طويلا ويشتري منهم القمح لتعزيز المخزون الاستراتيجي، من توفير الأسمدة والبذور نظرا لارتفاع الأسعار.
كما ارتفعت أسعار الأسمدة، التي عادة ما تتوفر بموجب اتفاق شراء القمح، بنسبة بلغت 800 في المئة، مما دفع المزارعين إلى التقليل من استخدامها.
وأشار التقرير كذلك إلى عدم انتظام الأمطار وانتشار الآفات الزراعية والصراعات والمسائل المتعلقة بالري، ضمن أسباب انخفاض إنتاج المحاصيل الرئيسية في السودان، وهي القمح والذرة الرفيعة والدخن، بأكثر من 35 في المئة هذا العام.
وتقول “فاو” إن السودان يواجه هذا العام عجزا نادرا في محصول السرغوم.
وقبل عام كانت الحكومة تروج للإمكانيات الزراعية الهائلة غير المستغلة بين المستثمرين مع بدء الانفتاح الاقتصادي في 2019، لكن هذا توقف فجأة أواخر العام الماضي.

باباغانا أحمدو: من دون الدعم سيخرج وضع الزراعة عن السيطرة
ويتوقع برنامج الأغذية العالمي أن يتضاعف عدد الذين يواجهون أزمات أو مستويات حرجة من الجوع، وهي المراحل السابقة على المجاعة، هذا العام ليبلغ 18 مليونا من سكان البلد البالغ عددهم 46 مليون نسمة.
وحتى مع ارتفاع أسعار القمح العالمية تظهر بيانات البنك المركزي أن السودان استورد 818 ألف طن في الربع الأول من 2022، أي ثلاثة أمثال ما استورده قبل عام.
وقال ممثل “فاو” بالسودان باباغانا أحمدو لرويترز إن “محصول القمح المحلي لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من الاستهلاك، ومع ذلك فإن الدعم الحكومي لزراعة القمح يشكل دعامة ضرورية وإن لم تكن مستدامة للنشاط”. وأضاف “من دونه سيخرج الوضع عن السيطرة”.
وكان من المفترض عادة أن يزرع عبدالله وغيره من المزارعين في مشروع الجزيرة الذرة الرفيعة وغيرها من المحاصيل التصديرية خلال فصل الصيف، بالاستعانة بربحهم من مشتريات القمح الحكومية.
لكن عمر مرزوق، محافظ مشروع الجزيرة، قال إن “التمويل غير متوفر سواء الحكومي أو الخاص”.
وقالت القيادة العسكرية إنها تدرس المشكلة. وانتقد المزارعون إعلانا صدر مؤخرا لشراء القمح، قائلين إنه ينطوي على شروط تعجيزية.
وينتظر المزارعون الذين يعانون من نقص السيولة بيع كميات صغيرة بسعر السوق البالغ نحو 49 دولارا للكيس، ليتمكنوا من تدبير شؤون معيشتهم، لكن المعدات الزراعية تقف خاملة في أماكنها.
ورجّح المزارع الذي تحدث من القضارف أن يخفّض هو وأقرانه ما يزرعونه من محاصيل تصديرية رئيسية مثل السمسم بما يصل إلى 80 في المئة، إذا لم يصلهم تمويل هذا الشهر.
وقال حسين سليمان، أستاذ الزراعة بجامعة القضارف، “أتوقع أن تتفاقم المشاكل في المواسم المقبلة إذا ما حصل تغيير جذري، ولا أتوقع تغييرا جذريا”.