انتقال ديمقراطي موجع يفرز مشهدا إعلاميا تونسيا مرتبكا

لكي نفهم ظاهرة مّا ونشخصها لا بد من وضعها في سياقها العام والخاص. وبما أننا بصدد محاولة تشخيص حالة المشهد الإعلامي التونسي بعد الثورة نرى ضرورة وضعه في إطاره العام، أي السياق الانتقالي. أما السياقات الخاصة التي أفرزت مشهدا إعلاميا مرتبكا بعد الثورة فتتمثل في ثلاث: سياق سياسي وسياق مهني وآخر مؤسساتي.
على الصعيد العام، تعيش تونس منذ أكثر من عشر سنوات مرحلة انتقال ديمقراطي، وهي مرحلة شهدت عثرات كثيرة بفعل عوامل عديدة لعل المجال لا يتسع هنا لحصرها. لكن الأكيد أن حالة الإعلام في أيّ بلد ترتبط ارتباطا وثيقا بالمناخ السياسي. وعلى اعتبار أن الانتقال من نظام سلطوي إلى نظام يصبو إلى تحقيق الديمقراطية هو انتقال صعب وموجع أحيانا، كان طبيعيا أن يترك هذا أثره على الانتقال الإعلامي في تونس.
وأما عن السياقات الخاصة والتي حصرناها في سياسي ومهني ومؤسساتي، فيحيلنا السياق الأول إلى تلازم بين السياسي والتشريعي. فبعد التخلي عن أغلب فصول مجلة الصحافة الزجرية لسنة 1975 تم تعويضها بالمرسومين 115 و116 لسنة 2011 اللذين ينظمان المشهد الإعلامي ويكرسان ما ورد لاحقا في دستور 2014 من قيم حرية التعبير والطباعة والنشر. لكن المزج بين منظومتين قانونيتين قديمة وجديدة رسم مشهدا إعلاميا هجينا غير مكتمل الملامح.
وبالنسبة إلى المناخ السياسي الذي ساهم بقسط وافر في نحت معالم الإعلام التونسي بعد الثورة فاتسم بظاهرة الاستقطاب الثنائي سياسيا وأيديولوجيا، التي ميزت بشكل خاص السنوات الأولى التي تلت الثورة التونسية. وعلى أساسه اصطف الصحافيون إلى جانب هذا الفريق أو ذاك مفتقدين بوصلة الاحتكام إلى المعايير المهنية.
وأما السياق المهني فنقصد به الضوابط الصحافية التي تنظم المهنة وفق معايير دولية. وهي ضوابط لم تكن حاضرة في تمثلات الصحافيين التونسيين بشكل منتظم لأسباب عديدة نذكر منها ضعف منظومة التكوين الأكاديمي والتدريب المهني للصحافيين، فضلا عن حضور ضعيف لأخلاقيات المهنة الصحافية في المجال الصحافي. إلى جانب تمازج الفاعلين الإعلاميين القدامى والفاعلين الجدد والذي ولّد مرة أخرى مشهدا إعلاميا هجينا.
القائمون على المؤسسات الإعلامية اختاروا طريق الدعاية السياسية بديلا في أجواء مشحونة بالمناكفات السياسية لترفع من نسب متابعة الجمهور وتضمن بالتالي عائدات الإعلانات التجارية
وأما بخصوص السياق المؤسساتي فيكفي أن نقول إن استراتيجيات المؤسسات الإعلامية كانت ولا زالت يحكمها الربح المادي السريع، خاصة لدى مؤسسات الإعلام الخاص التي نشأت بعد الثورة، وهي كثيرة، في ظل غياب إعلام عمومي حقيقي يعاني هو الآخر من إرث الماضي ومن مشاكل هيكلية جمة.
وفي الحقيقة فإن السياق المؤسساتي تأثر كثيرا بالسياقين السياسي والمهني. لذلك عمدت المؤسسات الإعلامية إلى استنساخ الأشكال الصحافية الأقل كلفة والأكثر حصدا للأموال في ظل بيئة سياسية يسودها الاستقطاب الثنائي. فتنامت برامج التوك شو الصاخبة التي تفسح المجال للمرافعات الإعلامية أكثر منها إنتاجا لمضامين صحافية. وكانت تلك المرافعات تصطف أيديولوجيا وبالضرورة مع هذا الفريق ضد الفريق الآخر. كما يجدر بنا ذكر أن الفاعلين الذين يؤثثون تلك المنابر الحوارية ليسوا في أغلبهم من أهل الاختصاص الصحافي، بل سيطر عليها المحامون والخبراء والمعلقون الإعلاميون والمحللون السياسيون، ليجد الصحافي المهني نفسه على هامش المشهد الإعلامي.
لم تعمل المؤسسات الإعلامية بعد الثورة على إنتاج مضامين صحافية أصيلة من قبيل الريبورتاجات والتحقيقات الاستقصائية، على اعتبار أنها تتطلب جهدا أكبر ووقتا أطول وإمكانيات مادية أضخم، وهي غير مضمونة من حيث العائد المادي المتعلق بالدعاية والإعلانات التجارية. فاختار القائمون على المؤسسات الإعلامية طريق الدعاية السياسية بديلا في أجواء مشحونة بالمناكفات السياسية لترفع من نسب متابعة الجمهور وتضمن بالتالي عائدات الإعلانات التجارية.
وعلى هذا الأساس نشأت في تونس معادلة تمزج بين الصحافة والاتصال السياسي، يسمّيها بعض الباحثين صحافة تعبيرية ترتكز على الاندفاع والمشاعر والأحاسيس. وتنامت ظاهرة الأخبار الزائفة في وسائل الإعلام التقليدية في وقت كان الغرب يعاني من نفس الظاهرة ولكن في الإعلام الجديد أي وسائل التواصل الاجتماعي. فلا تكاد تميز اليوم بين صحيفة تونسية وصفحة على موقع فيسبوك على مستوى التعاطي مع الأخبار وترويج الأخبار الزائفة.
الآن، وبعد مرور أكثر من عقد من الزمن، آن لهذا الارتباك أن يغادر المشهد الإعلامي التونسي عبر تنقية الأجواء السياسية وتكريس الجانب المهني على حساب الأيديولوجي، وتفعيل منظومة التنظيم (التعديل) التي وُلدت ضعيفة في تونس عبر تقوية دور المؤسسات التنظيمية لقطاع الإعلام على غرار الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري ومجلس الصحافة، مع ضرورة إشراك العنصر الأهم في عملية الإنتاج الصحافي والذي يبدو مغيبا في السنوات الأخيرة ألا وهو الجمهور الذي قاد مؤخرا حملة على مواقع التواصل الاجتماعي رفعت شعار “لا تجعل الحمقى مشاهير”.