مبارك بودرقة.. من متمرّد مسلّح إلى مشارك في هندسة العدالة الانتقالية بالمغرب

أبرز وجوه المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان في المغرب يرى أن الديمقراطية والعدالة مفهومان يحتاجان إلى المراجعة.
السبت 2022/06/04
معرفة وثيقة بالتفاصيل

عاش مبارك بودرقة أحد أبرز القيادات اليسارية حياة المعارضة لسنوات طويلة وكان مؤمنا بالسلاح كوسيلة للتغيير، وبعدها تغير منظوره للأشياء فأضحى منافحا عن حقوق الإنسان، ولبى نداء العاهل المغربي قبل 20 عاما لأجل المساهمة في طي صفحة من تاريخ المغرب بما كان يعرف في الأدبيات السياسية بالمغرب بسنوات الجمر والرصاص، فساهم بقوة وصبر في هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أنشأتها الدولة بدعم ملكي، من أجل جبر ضرر الضحايا والتي كانت تقوم على المقاربة التشاركية مع مختلف الشركاء، ومنهم الشركاء الحقوقيون.

في ندوة حول منجز العدالة الانتقالية في المغرب، نظمتها المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان قبل أيام قليلة، حث بودرقة وهو أبرز وجوهها كعضو في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي تحول إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، على الحوار في حل كل المشاكل المستعصية، مبينا أن مَن يريد أن يُحدث التغيير فإن مجال حقوق الإنسان هو المجال المناسب.

وحين يتحدث بودرقة فهو ينطلق من معرفة وثيقة بالتفاصيل، بعد أن واكب سوء الفهم الطويل بين الدولة والمعارضة بعد الاستقلال وإلى غاية تسعينات القرن الماضي، كما أسهم من موقعه في ترجمة إرادة الدولة بمؤسساتها في طي صفحة ما يطلق عليه في الأدبيات السياسية بـ”سنوات الجمر والرصاص”، حين كانت التكاليف الإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية كبيرة، وتعطلت سنوات وطاقات كان بالإمكان استثمارها في البناء.

تلاعب النظام الجزائري لم يكن خافيا على مجموعة المعارضة اليسارية المغربية التي كانت تقيم على الأراضي الجزائرية، ولهذا يقول بودرقة إنه تم تحذير بوليساريو ونصحهم بالانحياز لوطنهم والنضال من داخله

المصالحة مع أخطاء الماضي كانت تحديا مشتركا بين الدولة والمعارضة اليسارية، لذلك تماشت عودته إلى المغرب في العام 2001 مع هذه الرغبة بعدما توفرت الظروف السياسية الملائمة، وهي العودة التي كانت مقررة قبل رحيل الملك الحسن الثاني.

يمكن فهم إرادة التغيير على أنها إرادة سياسية للتعامل مع مخلفات الماضي وترجمة إلى إجراءات قابلة للتطبيق، وعلى هذا الأساس، يتعين على الجميع، كما قال العاهل المغربي الملك محمد السادس، قبل ستة عشر عاما، استخلاص الدروس اللازمة منها، وذلك بما يوفر الضمانات الكفيلة بتحصين البلاد من تكرار ما جرى، واستدراك ما فات، علاوة على حفظ تلك الحقبة في ذاكرة الأمة، باعتبارها جزءا من تاريخها.

كان أهم ما قامت به هيئة الإنصاف والمصالحة، وفق المهتمين، عقد جلسات علنية أدلى فيها ضحايا سابقون بشهادات عن القمع السياسي، شملت معالجة الماضي في عمليات الانتقال من الصراع بين المعارضة والنظام آنذاك، وتوفير العدالة للضحايا، آليات أو مناهج مختلفة كالملاحقات الجنائية، وتقصي الحقائق، والتعويضات، وإصلاح القانون والمؤسسات، سياقات متنازع عليها للغاية وهشة في كثير من الأحيان، ولهذا يؤكد بودرقة أن الملك محمد السادس قام بتعيينه ورفاقه من أجل البحث عن مصلحة المغرب.

التحرّر من شوائب الماضي

يُعتقد ضمنيا أن التغيير يحدث من خلال بعض الحكمة التقليدية المسلم بها، وهذا ما رصده بودرقة في المناخ العام الذي غطى العقد الأخير من عمر الملك الراحل الحسن الثاني، وبداية العهد الجديد، وتجربة الرجل وخبرته وعلاقاته كانت معيارا لإعطائه مهمة محورية داخل هيئة الإنصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، فعمل على تحقيق حلم رافقه حتى رجوعه إلى بلاده، في سياق البحث عن تحقيق مصالحة وطنية حقيقية والعمل على تصفية ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي شهدها المغرب من 1956 إلى 1999. وقد كان التوسع سريعا في الأهداف والتوقعات في تلك المرحلة الحساسة من بناء دولة الحق والقانون، بعد إرساء مؤسسات ما بعد الاستقلال.

يؤكد الملك محمد السادس أن المصالحة الصادقة التي أنجزها المغرب لا تعني نسيان الماضي، فالتاريخ لا يُنسى. وإنه لصفح جماعي، من شأنه أن يشكل دعامة للإصلاح المؤسسي، إصلاح عميق يجعل البلاد تتحرر من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية.

موقعه مكّنه من ترجمة إرادة الدولة لطي صفحة "سنوات الجمر والرصاص"

منهجية اشتغال هيئة الإنصاف والمصالحة التي أنشأتها الدولة من أجل جبر ضرر ضحايا سنوات الرصاص، كانت تقوم على المقاربة التشاركية مع مختلف الشركاء ومنهم الحقوقيون الذين أسهموا في بناء مسار حقوق الإنسان بالمغرب. هكذا يقيم بودرقة الوضع قبل 18 سنة تقريبا، مبرزا أن هؤلاء كانوا يحضرون جميع الندوات التي تنظمها الهيئة، ويتم اعتماد مقرراتهم، ويكونون أوَّل من يتم اطلاعهم على المعلومات السرية، مثل عقد جلسات الاستماع للضحايا قبل إخبار الرأي العام بها عبر الصحافة.

في مجال العدالة الانتقالية تطرح الافتراضات الأساسية حول العلاقات بين النتائج المرغوبة والطريقة التي يُتوقع أن تؤدي بها التدخلات المقترحة إلى تحقيقها، ولهذا يقول بودرقة إن ولادة العدالة الانتقالية بالمغرب “كانت ولادة عسيرة، وجوبهتْ بمعارضة قوية جدا”.

معارضة هذا التوجه تعود إلى تخوف البعض من النتائج غير المتوقعة، لهذا كانت هناك شكوك تم التعامل معها من خلال البحث في حالات الإخفاء القسري والاعتقال السياسي وتعويض الضحايا، وإصدار توصيات لتفادي تكرار الانتهاكات.

قام بودرقة ورفاقه بتوصية بإحداث “هيئة الحقيقة والمصالحة”، لأنه راكم عددا من الخبرات كعضو مؤسس لجمعية “آباء وأصدقاء المختفين في المغرب“، فلقي العنوان المُقترح معارضة أيضا وصفها بـ”الشديدة جدا”، لكنه أكد أنه لم يعتبر من عارضوا توجهه خصوما، بل وطنيين لديهم الحق، لأنهم ناقشوا الأمر بشكل علمي، وقالوا إن العدالة الانتقالية لا تُقام إلا في البلدان التي شهدت حروبا أهلية، وجرائم في حق الإنسان وهو ما لم يشهده المغرب.

منطق جديد

بودرقة يرى أن الظروف السابقة للبلاد لم تكن تساعد على إطلاق مسار العدالة الانتقالية
بودرقة يرى أن الظروف السابقة للبلاد لم تكن تساعد على إطلاق مسار العدالة الانتقالية

يعتبر بودرقة أن الظروف التي كانت سائدة في بداية الألفية الحالية لم تكن مساعدة على إطلاق مسار العدالة الانتقالية في المغرب، بسبب جملة من العوامل المتداخلة، ومنها وضعية القضية الوطنية “التي كانت في الحضيض” على حد وصفه، وتوتر العلاقات المغربية – الإسبانية بسبب جزيرة ليلى، ثم الانفجارات التي شهدتها مدينة الدار البيضاء سنة 2003.

ينقل تجربته مع المحجوبي أحرضان القيادي السياسي والرئيس المؤسس لحزب الحركة الشعبية في الاجتماع الثاني للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي كان بودرقة عضوا فيه، فيقول ”جاء إليّ وسألني: هل هؤلاء الذين أتوا ليفجّروا المغرب هم كذلك من بعد خمس سنوات أو ستّ نعطيهم تعويضات ونعتذر لهم؟”. فرد بحسب روايته بالقول “سي أحرضان إذا اعتقل هؤلاء الناس وعُذبوا، ولم يستفيدوا من ضمانات المحاكمة العادلة، علينا أن نعتذر لهم، ونعوّضهم عن الضرر الذي لحق بهم”.

وبعد مناقشات ماراثونية وتسويات عديدة تم اعتماد اسم ”هيئة الإنصاف والمصالحة”، بعدما تمت معارضة الاسم الأول من طرف الفئة التي كانوا يطلقون عليها ”موالون للنظام“، وقد ردد بودرقة في مناسبات كثيرة أنهم كانوا يقولون له ولرفاقه “أنتم لا تمثلون الحقيقة، بل تريدون تحطيم النظام، وحملتم السلاح”.

في مسألة تعويض المتضررين الذين استقروا بالخارج، تم رفض صرف أي تعويض مادي تحت مبرر أنهم يملكون شققا ومطاعم ويعيشون جيدا هناك، فكلف عمر عزيمان رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان بودرقة بإيجاد حل للخلاف بين الطرفين حول المسألة، وتم الاهتداء إلى التجارب المقارنة، حيث تم تعويض المعارضين المنفيين، سواء في الخارج أو الداخل.

بودرقة يرى أن الظروف التي كانت سائدة في بداية الألفية الحالية لم تكن مساعدة على إطلاق مسار العدالة الانتقالية في المغرب، بسبب جملة من العوامل المتداخلة

كان بودرقة في صفوف تيار ”الاختيار الثوري“ في المعارضة اليسارية والذي كان هدفه تحقيق التغيير الذي يطمح إليه بواسطة السلاح، ويبدو أنه كانت له توقعات أخرى نضجت مع الوقت فغادر هذه المجموعة في العام 1982، ليلتحق بنوع آخر من النضال المتركز على توسيع منظومة حقوق الإنسان بالمغرب، كوسيلة مثلى للتغيير.

بنفس المنطق اشتغل مع عدد من المؤمنين بالتغيير السلمي المعتمد على رؤية حقوقية واضحة، وتجربته كعضو المؤتمر التأسيسي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان تؤهله لذلك، فقام مع رفاقه من داخل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بتقديم توصية إقامة العدالة الانتقالية في المغرب، بعد استفادته من تجارب جميع البلدان التي شهدت عدالة انتقالية.

 المفاهيم العامة مثل العدالة والحقيقة والمصالحة والسلام والديمقراطية، على الرغم من التنازع عليها، تحتاج إلى درجة معينة من الوضوح والتركيز، كما تتطلب العلاقة بين المفاهيم تنظيرا وتطبيقا حسب الحالة المغربية، والتي وصفها أحرضان بأنها لم تكن حربا أهلية وإنما محاولة فاشلة لتغيير النظام بالسلاح.

بودرقة كان من بين صانعي ثورة الثالث من مارس 1973، باعتباره مشرفا على العمليات انطلاقا من الجزائر، ثورة مجهضة ذهب ضحيتها الكثير الذين تم إعدامهم، أو أدخلوا السجون، واستفاد آخرون بعد سنوات من عفو ملكي للمضي قدما إلى المستقبل، وهذا دليل على أن النظام كان على رأس أولوياته لمّ الشمل.

غادر المغرب بعد الأحداث مباشرة إثر القبض على عمر دهكون، أقرب مساعديه، ليكون الحظ وحسن تقدير الأمور حليفيه، ليعود بعد ثلاثة عقود تقريبا مقتنعا بأن التغيير لا يكون بقلب الأنظمة واستعمال السلاح وأن الحالة المغربية تقتضي كثيرا من التريث والحكمة. عودة سبقها توجه الدولة بمنح الفرصة للشق اليساري ليحكم، فكانت حكومة التناوب في العام 1998، وطي ملف الانتهاكات والتغاضي عن دور بودرقة، في تخطيط وتنفيذ ثورة مسلحة.

بودرقة وكواليس بوليساريو

Thumbnail

لأنه مارس المحاماة في مكتب مؤسس الاتحاد الاشتراكي عبدالرحيم بوعبيد، وكان معتمدا لدى هيئة المحامين بالعاصمة الرباط، يشعر بودرقة بأنه من الواجب التسلح بمعرفة شاملة عن الماضي من أجل بناء الحاضر واستشراف المستقبل.

كتب في مذكراته أن الفقيه البصري كان يعارض بشدة اختيار مؤسسي بوليساريو وضع أيديهم في يد النظام الجزائري، الداعم الأول للأطروحة الانفصالية، فالرجل يحكي من منطلق قربه من الكواليس والمساهمة في العديد من الملفات، فقد التقى مباشرة مع مؤسس بوليساريو الوالي مصطفى السيد، ودار بينهما حديث عميق ومُنتج،  قبل أن تتم تصفيته من طرف المخابرات الجزائرية بعدما تبين أنه لا ينساق إلى رغبتهم.

يحكي بودرقة عن هذه العلاقة قائلا ”عندما تحملت مسؤولية التنظيم في الجزائر التقيت الوالي مصطفى السيد مع شاب آخر كان يرافقه، دار بيننا حديث عميق ومُنتج“، وحسب شهادته فإن الوالي كشف عن حس وطني وحدوي عال، وعن طموح للتنسيق والتعاون مع المعارضة السياسية والمسلحة، ويضيف بودرقة ”سلمني في هذا الشأن تقريرا مفصلا عن الأوضاع في الصحراء“.

يكشف هنا أن المعارضة المغربية كانت على تقارب مع المناضلين في الصحراء، حتى قبل أن تولد أطروحة الانفصال عن المغرب، قبل أن تشرع الجزائر في تمويلهم، والذي جاء بعد طرح قضية الصحراء ورفض الفقيه البصري مسايرة الرئيس الجزائري هواري بومدين في مشروعه.

بودرقة الذي كان يحمل الاسم الحركي ”عباس“ للتمويه، انخرط في ثورة دفعته إلى أن يقول عنها بكثير من الشجاعة إنها عرفت أخطاء قاتلة على مستوى التنظيم والتنسيق

تلاعب النظام الجزائري لم يكن خافيا على مجموعة المعارضة اليسارية المغربية التي كانت تقيم على الأراضي الجزائرية، ولهذا يقول بودرقة إنه تم تحذير بوليساريو ونصحهم بالانحياز لوطنهم والنضال من داخله، عوض تحكم المسؤولين الجزائريين فيهم وتوظيفهم لخدمة أغراضهم.

الرجل الذي كان يحمل السلاح ضد الدولة المغربية شرح لقيادات الشباب الصحراوي فضل المضي في حلمهم دون بيع وطنهم، لكن الوالي حصل على دعم الجزائريين وعاد من عاصمتهم مشحونا، حتى أنه قرر مهاجمة موريتانيا، ونقل عنه بودرقة قوله “سأحسم هذا الأمر في أقلّ من سنة ولو كلفني حياتي”، وقد كلفه حياته بالفعل.

قامت الطائرات بالتصدي لزحف الوالي وجيشه فقصفت قواته وأنهت حياته. لم يكن في مصلحة النظام الجزائري أن ينجح هجومه على نواكشوط، ففيه تعزيز لقوته التي قد تسعفه للخروج عن طوعها وتحقيقه لاستقلال فعلي في قراراته. ما يعني أن النظام الجزائري ساهم بطريقته في مقتل مؤسس بوليساريو، ثم إن هجومه على نواكشوط، وهي عاصمة دولة مستقلة ولها حضورها الدولي، انطلق من التراب الجزائري، كما يقول بودرقة في كتابه الذي حمل عنوان “بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة“.

كان بودرقة يحمل الاسم الحركي ”عباس“ للتمويه، في ثورة دفعته إلى أن يقول عنها بكثير من الشجاعة إنها عرفت أخطاء قاتلة على مستوى التنظيم والتنسيق، وأن الاندفاع أخذ الذين تحمّسوا لها، ولم يحسبوا الأمور جيدا، كيف لا يرى ذلك وهو الدارس الجيد للتاريخ والقانون والذي يمتلك معرفة بمجريات الأمور؟

12