نادي السينما حاربه الإسلاميون وقضى عليه السادات

ما زالت تجربة نادي سينما القاهرة في السبعينات، والذي كان يضم أكثر من 1500 عضو، تلهم بالكتابة عنها واسترجاع أهم الأحداث والأفلام التي عرضها النادي مساهما في تكوين جيل من نقاد السينما الذين انطلقوا في ما بعد للعمل في شبكة النوادي التي ولدت من رحم هذا النادي الأمّ. وقد أسس حراكا سينمائيا بارزا، سواء في ما قدمه من أفلام عالمية مؤسسة أو في ما وفره من مناخ للنقاش والجدل وترسيخ النقد السينمائي الذي ساهم بدوره في إنعاش السينما.
يطوف بنا كتاب “عصر نادي السينما” لأمير العمري متعمقا في تجربة نادي السينما بالقاهرة، التجربة التي يعتبر المؤلف أنها الأكثر رقيا واكتمالا بل ورسوخا من جميع التجارب المماثلة لنوادي السينما.
يسرد العمري في كتابه، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فيها ذكرياته وانطباعاته الخاصة في تلك الفترة من سبعينات القرن الماضي، حينما كان قريبا وملتصقا أشد الالتصاق بتجربة نادي السينما، وكان لا يزال طالبا في الجامعة، وكثيرا ما رجع في كتابه إلى مجلدات نَشرة نادي السينما التي لديه منذ بداية تأسيس النادي إلى نهايته، حيث كان نادي السينما نافذة مهمة للإطلال على روائع السينما في العالم.
بدايات نوادي السينما

رحلة شيِّقة يقطعها كتاب "عصر نادي السينما"، ما بين الدوريات وعرض الأفلام وعلاقة ذلك بالظروف التي مرّ بها المجتمع
يقول الكاتب “إني ما زلت أرى أن السبعينات تحديدا كانت الحقبة الأكثر حيوية، ليس فقط في نشاط نادي السينما، بل في مُجْمَل الثقافة المصرية. فالتاريخ يكشف أنه بعد ما وقع في يونيو 1967، لم تعد مصر إلى ما كانت عليه قط، وبدأت أكبر حركة مراجعة في الحياة السياسية والثقافية للكثير من الشعارات والأفكار والقيم التي تم غرسها منذ عام 1952، ولم يكن بالتالي من قبيل المصادفة أن تشهد هذه الفترة ظهور دعوة للسينما الجديدة، ليس فقط في مصر، بل في سوريا ولبنان والجزائر والمغرب وتونس، فبعد 1967 أصبح طلاب الجامعات يبحثون عن مصادر جديدة للمعرفة خارج الأطر الرسمية، فأقام الطلاب المنتديات الثقافية”.
ومن قلب الحراك الثقافي جاءت فكرة نادي السينما، وقد نشأت التجربة أصلا من داخل الأجهزة الرسمية؛ لامتصاص غضب الشباب واحتواء طموحاتهم التي لم يعد من الممكن تدجينها كما كان في السابق، ولأن نادي السينما في تلك الفترة كان نافذة مهمة للاطلاع على روائع السينما في العالم خاصة عندما تولى الناقد مصطفى درويش مهمة الرقابة على السينما وغيرها، كان مثقفا منفتحا على التجارب السينمائية الأوروبية، وبالتالي كان لنادي الأم للسينما في القاهرة أثر كبير على ما حوله، وخرج من معطفه الكثير من النوادي في الجامعات المصرية، والنقابات المهنية، وانطلقت حركة نوادي السينما في الأقاليم، والتي خصَّص لها المؤلف ملحقا خاصا من ملاحق الكتاب.
يتعرَّض المؤلف قبل أن يدخل في عمق نادي السينما في القاهرة إلى بدايات نوادي السينما في العالم (ظهرت فكرة نوادي السينما للمرة الأولى في أبريل 1907 عندما أسَّس إدموند بينوا - ليفي “نادي الفيلم” (film club) في البناية رقم 5 طريق مونانرتر في باريس، وكان الهدف من إنشاء هذا النادي كما ذكرت المعلومات القليلة المتوفرة عنه، هو حفظ كل ما يتعلَّق بالنشاط السينمائي من وثائق ومعلومات وصور، بالإضافة إلى قاعة عرض للأفلام.
ويسرد تاريخ النوادي عندما أسس المخرج والناقد السينمائي الفرنسي لويس ديلوك أول جمعية سينمائية عام 1918، كما أسَّس ريتشيوتو كانودو عام 1920 جمعية سينمائية في إيطاليا، وكان الغرض من فكرة نوادي السينما منذ بداياتها أن تفتح المجال أمام عرض الأفلام التجريبية والطليعية والكلاسيكيات القديمة ويذكر أن جمعية الفيلم اللندنية هي التي وضعت الأساس الحقيقي الذي قام عليه في ما بعد “معهد الفيلم البريطاني” ويبرز مشروع نادي السينما كمشروع طموح من مشاريع وزارة الثقافة المصرية والذي تأسس في عام 1968 وكان المركز القومي للأفلام التسجيلية قد تأسس في العام السابق 1967.
البداية الحقيقية
مما يذكر في بداية نادي السينما حين أداره الناقد مصطفى درويش أنه واجه الكثير من المتاعب مع ارتفاع ممثلي تيار الإسلام السياسي وما أعلنوه من اعتراضات كثيرة في مجلس الأمة يقول “وقد خذل المثقفون المصريون مصطفى درويش ولم يقف أحد إلى جواره في معركته مع خفافيش الظلام، فأقيل من منصبه”.
ولما أعلن النادي عن فتح أبوابه في بداية إعلان تأسيسه، تقدم للحصول على عضويته خمسة آلاف عضو، تحت تصور أن النادي سيعرض الأفلام الممنوعة، التي تتضمن مناظر جنسية، وأوضحت الوزارة أن العرض سيكون للأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة، ويعرج المؤلف إلى هذه البداية ويذكر الأفلام التي عرضت في موسمه الأول (1968 - 1969) مثل الفيلم السويدي “بيرسونا” أو “القناع” لبرجمان، والفيلم السوفيتي “المدرس الأول” من إخراج أندريه كونتشالوفسكي الذي يعد من تحف السينما السوفيتية، ومن الأفلام العربية تم عرض أفلام “الظامئون” للمخرج محمد شكري جميل، و”رجال في الشمس” لثلاثة مخرجين من سوريا، و”رسائل من سجنان” لعبداللطيف بن عمار من تونس.
ونتابع تاريخ النادي فنعرف أنه بعد استقرار نشاط النادي انتقلت العروض الأسبوعية من قاعة الجامعة الأميركية إلى دار سينما “أوبرا” في وسط القاهرة، وكانت واحدة من أجمل دور السينما القاهرية، ولم يظهر نادي السينما الرئيسي في القاهرة عام 1968 من فراغ فقد كان التجمُّع الأول في الخمسينات، من خلال “ندوة الفيلم المختار” التي أسسها الكاتب المبدع يحيى حقي عندما كان رئيسا لما أُطلقت عليه مصلحة الفنون التي تأسست عام 1955.
وعلى سبيل التأريخ يذكر الدكتور ناجي فوزي أستاذ النقد السينمائي بأكاديمية الفنون في كتابه “المركز الكاثوليكي المصري للسينما وخمسون عاما من الثقافة السينمائية” أن البداية الحقيقة للنوادي السينمائية في مصر تعود إلى المؤرخ والناقد السينمائي فريد المزاوي الذي يعتبر الأب الروحي الفعلي لها، فقد أسَّس “نادي الفيلم” بالمركز الكاثوليكي للسينما، ثم بعض نوادي السينما في بعض أحياء القاهرة في عام 1945.
المتشددون وقضية الجنس
نادي السينما الذي أداره الناقد مصطفى درويش واجه الكثير من المتاعب مع ارتفاع ممثلي تيار الإسلام السياسي
يدخل بنا الكتاب إلى من كانوا يكتبون في السينما في تلك الفترة: سامي السلاموني، سمير فريد، فتحي فرج، ويشرح أن دور الناقد السينمائي في تلك الفترة كان مختلفا إذ “كان النقد السينمائي في السبعينات تحديدا يحاول أن يقوم بدور في تغيير ‘السينما السائدة‘ فقد كانت الدعوة إلى ‘السينما الجديدة‘ قد اتخذت طابع الهجوم.. وكان نقاد السينما ينقسمون فكريا إلى مدرستين، تيار يساري يضم سامي السلاموني وفتحي فرج وسمير فودة ورفيق الصبان، ومصطفى درويش وصبحي شفيق ثم كمال رمزي، وكان هناك ما يمكن اعتباره تيارا يمينيا، أو أقرب إلى اليمين والوسط، يضم: أحمد الحضري، أحمد رأفت بهجت، وسمير سيف، وأحمد راشد وفوزي سليمان، لكنه لم يكن يمينا رجعيا، بل مستنيرا، مثقفا”.(ص ص 47،48 بتصرف).
ويشير لما تضمنه العدد الثالث من مجلة “المسرح والسينما” في مارس 1968 رقم 51 أن العدد تضمَّن ندوة أقامها وزير الثقافة ثروت عكاشة، ضمت عددا من السينمائيين والأدباء حول مشكلات الإنتاج السينمائي في مصر، وخاصة إنتاج القطاع العام، وتناول أيضا مشكلة الجنس في السينما المصرية يقول “حدث هذا في الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات التيار المتزمت الذي يتسربل بالدين ويتمسح بالإسلام في أعقاب الهزيمة التي وقعت في 1967، واعتبرها التيار الإسلامي وممثلوه نتيجة الانصراف عن الدين”.
والغريب أن مجلس الشعب خصَّص جلسة لمناقشة مشكلة الجنس في الأفلام بتاريخ الحادي والعشرين من فبراير 1968. يعلق سعدالدين وهبة “وكانت المصادفة وحدها هي التي جعلت نجيب محفوظ يجلس في مواجهة عضو مجلس الشعب تماما، عندما تحدث العضو عن فيلم ‘قصر الشوق’ هاجم مخرجه حسن الإمام هجوما عنيفا، واختتم هجومه بقوله ‘إنه ليس حسنا ولا إماما’، وعندما ذكر مصطفى درويش مدير الرقابة، التفت العضو إلى وزير الثقافة وقال: نريده درويشا حقيقيا”.
ويتضح أن نادي السينما نال من الهجوم الذي ناله فيلم “قصر الشوق”، يكتب العمري “تصدى له أحد الأعضاء وهاجمه هجوما عنيفا باعتباره مباءة ومفسدة ومكانا لعرض الأفلام الداعرة، لكن وزير الثقافة دافع عن نادي السينما وصحَّح المعلومات التي علقت في أذهان البعض مما نشر عن نادي السينما”.
علامات النهاية
كانت علامات زوال النهضة السينمائية تبدو في الأفق عندما أعلن الرئيس السادات في خطاب رسمي أن سياسة التأميم للكثير من الفعاليات والنشاطات لم تعد ملائمة للعصر، يقول “كان من أولى القرارات التي صدرت بعد تولي السادات السلطة تصفية القطاع العام السينمائي ممثلا وقتها في مؤسسة السينما بعد أن سخر منها السادات بقوله ‘وهل يجب أن تبيع الدولة تذاكر السينما'”.
وفي مطلع عام 1973 بدأ نادي السينما يواجه مشكلة من الهيئة العامة للمسرح والسينما التابعة للدولة، مطالبة النادي بدفع قيمة إيجار حفلة السينما المخصصة على أساس تجاري بما يوازي ثمانية أضعاف ما كان النادي يدفعه بالفعل، يقول العمري “والغريب أن المنتج السينمائي المعروف تاكفور أنطونيان كان يُحَرِّض الهيئة على طرد نادي السينما من مقره، والسبب أن فيلمه ‘خللي بالك من زوزو‘ كان قد بدأ يُعْرَض في نفس دار السينما ابتداء من نوفمبر 1972 وكان يحقَّق إقبالا جماهيريا كبيرا، ولم يكن الرجل يريد أن يحرمه النادي من دخل حفلة التاسعة مساء الأربعاء”.
وكان عام 1973 عام السينما السياسية في مصر في ما يذكر الكاتب أن نادي السينما افتتح العام بعرض فيلم “زائر الفجر” لممدوح شكري في الحادي والثلاثين من يناير 1973، والفيلم يعبر عن مجتمع الهزيمة، مع العلم بأنه قبل “زائر الفجر” مباشرة عرض النادي واحدا من أهم وأقوى أفلام السينما الإيطالية “انتهى التحقيق المبدئي.. انس الموضوع” للمخرج داميانو دامياني، فلم يتوقَّف النادي عن عرض الأفلام السياسية في مرحلة شديدة السخونة في مصر.
وسيعرض النادي بعد ذلك واحدا من أهم وأقوى الأفلام السياسية على الإطلاق “قضية ماتيه” لفرنشيسكو روزي رائد التيار السياسي في السينما الإيطالية، كما يشير الكاتب إلى فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” بعنوان منفصل “عام الرصاصة”.
وعند منتصف السنة العاشرة من عمر النادي 1977 بسبب السياسة الجديدة التي اتبعها الرئيس السادات، توقَّف إنتاج الأفلام بواسطة الدولة مباشرة، وارتفعت نفقات النادي وظهر عجز واضح في الميزانية، ولم يستطع النادي تبادل الأفلام مع نوادي السينما في دول أخرى؛ “لأن النادي لا يملك أرشيفا للأفلام يمكنه أن يتبادل محتوياته مع تلك النوادي”. وفي عام 1993 انتهت رحلة النادي.
رحلة شيِّقة يقطعها كتاب عصر السينما، ما بين النشرات الدورية، وعرض الأفلام، ونقدها، وعلاقة ذلك بالظروف التي مر بها المجتمع، كما يتوقَّف أمام عدد من الظواهر السينمائية، والأفلام، والشخصيات السينمائية المهمة، فتخرج مع نهاية الصفحات بجرعة سينمائية مشبعة.
* المقال ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية