الجزائر أمام تحدي تجنب إهدار فرص النهوض بالاقتصاد

يخفي التقييم المتشائم لصندوق النقد الدولي بشأن قدرة الجزائر على إنعاش اقتصادها بفضل الإيرادات التي يمكن جنيها إثر ارتفاع أسعار النفط، في طياته رسائل مبطنة تتمحور أغلبها حول حاجة الحكومة إلى القيام بإصلاح مالي حقيقي لتفادي أي مخاطر محتملة من تقلبات الأسواق العالمية.
الجزائر- كرر خبراء صندوق النقد الدولي تقييماتهم السلبية لإدارة المسؤولين الجزائريين للاقتصاد وأكدوا أن البلد النفطي بحاجة ماسة وفورية إلى ضبط مالي قوي وإصلاحات هيكلية حقيقية للحفاظ على الهوامش المالية الوقائية وتعزيز النمو للابتعاد عن خط الأزمة.
وتجد الجزائر نفسها في وضع أفضل قياسا بالسنوات الماضية في ظل ارتفاع عائدات الطاقة بفضل الأسعار المرتفعة، لكنها في الوقت ذاته تواجه تحديا كبيرا وصعبا يتمثل في تجنب إهدار هذه الفرصة للنهوض باقتصادها حتى ينعكس ذلك على الناس.
وناقش مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في الصندوق جهاد أزعور في اجتماع بتقنية فيديو كونفرانس مساء الخميس الماضي مع وزير المالية الجزائري عبدالرحمن راوية الوضع الاقتصادي في خطوة أخرى لحث البلد على الإسراع في وتيرة تنفيذ الإصلاح.
ويمتلك البلد الكثير من مصادر النمو وفرص العمل، التي لم تستغل منذ زمن بعيد ولتطويرها يقتضي الوضع القائم تحولا جذريا على مستوى الاقتصاد مع تنويعه بعيدا عن الهيدروكربونات.

جهاد أزعور: عوائد الطاقة يجب ألا تعيق تنفيذ الإصلاحات الهيكلية
ونسبت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية إلى أزعور قوله إنه “رغم ارتفاع أسعار النفط والغاز المُسجل خلال الأشهر الأخيرة فمن الضروري الإبقاء على الالتزام في مجال الإصلاحات الهيكلية ومعالجة التوازنات المالية في الموازنة العامة”.
وأكد استعداد الصندوق لمواصلة نشاطاته في مجال الدعم الفني والاستشارة لمرافقة مسار الإصلاحات الذي باشرته الجزائر.
واقترحت الحكومة العام الماضي سلسلة إصلاحات تهدف إلى مواجهة تحدي تراجع عائدات الطاقة وضعف مشاركة القطاع الخاص في التنمية وانحسار دور القطاع المصرفي، لكن خبراء يرون أنها ستحتاج الكثير من الوقت حتى تجني ثمار ذلك بالنظر إلى العديد من التحديات التي تواجهها في هذا الطريق.
وكانت آخر هذه الخطوات التركيز على قانون الاستثمار الذي أعلنت الحكومة الخميس الماضي أنها تعكف على صياغة جديدة له لفتح الباب أمام تدفق الأموال من الخارج في بلد ظل مكبلا لسنوات بقيود البيروقراطية والفساد.
ولعقود ظل الاقتصاد الجزائري يشكو من أزمة هيكلية مزمنة جراء ارتباطه العضوي بالصناعة النفطية، والتي تشكل العمود الفقري للنمو مما جعل الحكومات المتعاقبة تضيع الكثير من الفرص لتنويع مصادر الدخل.
وتعتمد الحكومة على مبيعات النفط والغاز في تحصيل 95 في المئة من إيراداتها من العملة الأجنبية التي تقلصت بشكل كبير منذ العام 2014 قبل أن تعاود النمو منذ أواخر فبراير الماضي مع انتعاش أسعار الطاقة في الأسواق العالمية جراء الحرب في شرق أوروبا.
وتمتد قائمة التحديات التي تواجه المسؤولين، من معالجة البطالة وتنويع مصادر الدخل ودعم القطاع الخاص إلى تعزيز الاستثمارات المحلية والخارجية وتصحيح الاختلالات المالية من أجل تحسين الظروف المعيشية للسكان.
وأجبرت الأزمة المالية السلطات على الدخول في معركة السيطرة على الواردات بعد أن تسببت في استنزاف الاحتياطات النقدية نتيجة ارتفاع تكاليفها السنوية، في محاولة منها لمعالجة الاختلالات المالية المزمنة.

عبدالرحمن راوية: نسعى إلى تحصيل أكبر قدر من موارد تمويل الاقتصاد
واستنفد البلد معظم احتياطاته من العملة الصعبة خلال السنوات الثمان الماضية رغم انخفاض الدين العام، حيث تراجعت من ذروتها عند نحو مئتي مليار دولار في 2014 إلى قرابة 44 مليار دولار العام الماضي.
وقال راوية خلال اجتماعه مع أزعور إن بلاده “عازمة رغم ارتفاع أسعار النفط في الأسواق الدولية، على تعجيل الورش الطموحة للإصلاحات، التي سبق إطلاقها، لاسيما في مجالات الجباية والميزانية والبنوك”.
وأشار إلى أن الحكومة تسعى إلى ضمان تحصيل أكبر قدر من موارد تمويل الاقتصاد لا سيما عن طريق إصلاح النظام الضريبي، وإدماج القطاع الموازي في التعاملات الرسمية في بلد تبلغ معدل البطالة فيه 13.4 في المئة من تعداد سكان يتجاوز الأربعين مليون نسمة.
وتشير التقديرات الرسمية إلى أن السوق السوداء تمثل نحو 25 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للجزائر، إلا أن هناك تشكيكا في هذه النسبة.
ورغم أن المانحين ووكالات التصنيف الائتماني العالمية ترى أن اقتصاد الجزائر بدأ يتعافى تدريجيا من تداعيات الوباء والصدمات التي شهدتها أسواق النفط في 2020، لكنها تؤكد على أن نقاط الضعف التي سبقت الأزمة الصحية لا تزال قائمة والمخاطر التي تهدد النمو مرتفعة.
وكان الصندوق قد حذر في أكتوبر الماضي بعد إجرائه أول مشاورات مع الجزائر منذ 2018، من أن البلاد تخاطر باحتياجات تمويلية غير مسبوقة على المدى المتوسط إذا استمرت تعاني من عجز مالي مرتفع، وحث على إجراء تغييرات كبيرة في سياستها الاقتصادية.
وقال حينها إنه “في هذا السياق نرى من الضروري تبني مزيج من السياسات المتناغمة لدعم استقرار الاقتصاد الكلي ولتعزيز نمو مستدام ومرن وشامل.”
وتعاني الموازنة العامة عجزا منذ سنوات. ومن المتوقع أن يصل إلى نحو 33 مليار دولار خلال السنة الجارية، وهو الأعلى في تاريخ البلاد، قياسا بنحو 22 مليار دولار نهاية العام الماضي.
ومع تخلي العديد من الدول عن رفضها لطلب مساعدة الصندوق، لا تزال الجزائر، تتمسك بموقفها، لكنها تحتاج إلى بقاء أسعار النفط والغاز عند مستوياتها المرتفعة الآن لبعض الوقت لتعبئة السيولة مع الاستفادة من تدفق المشاريع الصينية حتي يبقيها واقفة على قدميها.
الأزمة المالية أجبرت السلطات على الدخول في معركة السيطرة على الواردات بعد أن تسببت في استنزاف الاحتياطات النقدية
وفي خضم لجوء حكومات الدول النامية إلى الصندوق لطلب المساعدة المالية تبدو الجزائر، البلد العضو في منظمة أوبك، الذي عانى من تعامله مع هذا الكيان خلال العشرية السوداء في تسعينات القرن الماضي، أحد أهم معاقل مقاومة الحصول على قروض.
والخريف الماضي، وجه الرئيس عبدالمجيد تبون انتقادات لاذعة للصندوق حيث قال إنه “يحاول رسم مسار محدد لاقتصاد البلاد، بغية التوجه نحو الاقتراض الخارجي”.
ومع أن سعر البرميل الذي بلغ في المتوسط خلال الفترة الماضية 110 دولارات يمنح بارقة أمل للسلطات من أجل معالجة الاختلالات المالية، إلا أن الوفرة المتوقعة في الإيرادات قد تلتهمها التكاليف الباهظة لتوفير الغذاء.