"القيامة 2".. مونودراما سورية عن التهجير القسري

يختار الفنان المسرحي زيناتي قدسية عروض المونودراما لتكون مساحة حرّة، يتحمل مسؤوليته الكاملة عنها، فيحول خشبة المسرح إلى منبر يخطب من خلاله في الجمهور المسرحي ليذكره بمآسي العرب المشتركة وبمعاناة الأوطان من الحروب وحركة الهجرة المستمرة جرّاء الانتهاكات التي لا حدّ لها، انطلاقا من قصص مسرحية تشبه كثيرا الواقع المؤلم.
دمشق - يواصل الفنان الفلسطيني زيناتي قدسية إثراء تجربته المسرحية وتحديدا في أعمال المونودراما التي اشتهر بها، عبر تقديمه عرضا مسرحيا جديدا بعنوان “القيامة 2” وفيه يستعرض مأساة التهجير القسري الذي صار يعاني منه الآلاف من اللاجئين في عالمنا المليء بالحروب والنزاعات.
وبعد مرور ستة وثلاثين عاما على تقديمه عرض “القيامة 1” الذي قدمه بالتعاون مع الكاتب والشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، اعتلى الفنان الفلسطيني خشبة مسرح ثقافي حمص بعرض مونودراما “القيامة 2”، تزامنا مع فعاليات إحياء ذكرى نكبة فلسطين (1948) التي تعقد كل عام في الخامس عشر من مايو.
ويذكر أن النكبة شردت قسرا وبالقوة نحو 800 ألف فلسطيني، من أصل نحو مليون و400 ألف، إلى الضفة الغربية وقطاع غزة والدول العربية المجاورة.
و“القيامة 1” (1986)، الذي كتبه عدوان من وحي الثورة الفلسطينية، قدمه قدسية باللهجة المحلية، وكان العرض بمثابة استهجان لدكتاتوريات عربية طعنت القضية الفلسطينية في الظهر. ويحكي العمل قصة أبوماجد، الذي وجد نفسه في مقبرة الشهداء ليلا، فظل مصرا على تبني صوتهم.

المسرحية استعراض لمأساة التهجير القسري الذي صار يعاني منه الآلاف من اللاجئين في عالمنا المليء بالحروب والنزاعات
وما بين القيامتين اللتين تفصل بينهما أكثر من ثلاثة عقود جرت أحداث وأيام صعبة يعيشها عالمنا العربي من أقصاه لأقصاه، قرر قدسية الحديث عنها مسرحيا، عبر عمل كتب نصّه وأخرجه بنفسه.
ويحكي العرض الذي نظمه منتدى غسان كنفاني الثقافي بالتعاون مع مديرية ثقافة حمص، قصة فنان مسرحي هجر من بلده الأم فلسطين إلى سوريا، لكنه يضطر خلال سنوات الحرب في سوريا إلى الهجرة مرة أخرى. ويقف العمل مطولا أمام مأساة مغادرة الإنسان قسريا لوطنه، وإجباره على الخروج من منزله ومعاناته صعوبة العيش وضيق الحال بالإضافة إلى تداعيات الحرب وآثارها السلبية على الأفراد والشعوب.
وتقدم المسرحية رسالة مفادها أن الإنسان الوطني لا يغيّر مبادئه ورسالته وإيمانه بوطنه.
وأشار قدسية إلى أنه أراد أن يشارك في إحياء ذكرى النكبة الرابعة والسبعين التي تولدت عنها عدة نكبات عاشتها منطقتنا العربية، لافتا إلى أهمية الرسالة التي حاولت المسرحية إيصالها للجمهور والتي تنبع من رمزية أن يرفع الصوت من سوريا لنحيي ذكرى النكبة في ظل هذا الواقع العجيب فالعالم كله يترقب فلسطين وصمودها وما يحصل فيها.
وأضاف قدسية أنه من واجب كل فنان أن يعكس عبر الفن كل هذه الأحداث ويذكر شعبه فيها ويفتح نوافذ الوعي أمام كل الأجيال التي لم تعاصر القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أنه استفاد من تجربته التي عاشها ومعاناة الفلسطيني المهجر.
وبينت روندا منصور وهي أحد أعضاء منتدى غسان كنفاني أن المسرحية ترصد معاناة الشعب الفلسطيني والنكبة وويلاتها وتذكر الجيل الجديد بالقضية الفلسطينية.
وقال المهندس بسام يعقوب وهو فلسطيني مهجر من حيفا إن “المسرحية جزء من نضال شعبنا والتعبير عن قضيتنا الفلسطينية والحل الوحيد هو استرجاع الأرض وعودة كل اللاجئين إلى فلسطين”.
وقالت سمر ملحم، وهي أحد الحاضرين في العرض المسرحي، إن “العرض كان ممتعا أسعد المشاهد وأبكاه وهو يرتبط بذكرى النكبة ارتباطا كبيرا حيث استطاع الفنان قدسية أن يخلق عملا راقيا فكان متمكنا من أدواته ومبدعا في أدائه”.

ويذكر أن الممثل زيناتي قدسية الملقّب بـ”فنان المونودراما” من أشهر من اشتغل على عروض المونودراما وارتبط اسمه بها فقدم مسرحيات “الزبال”، “القيامة 1”، “حال الدنيا”، “آكلة لحوم البشر”. ومن بين أبرز أدواره المسرحية أداؤه لشخصية المناضل ألمهاتما غاندي في مونودراما تحمل اسمه، وشخصية الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في مسلسل “حضرة الغياب” الذي يجسّد قصة حياة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.
والممثل السوري هو من أصل فلسطيني حيث ولد في قرية إجزم، في حيفا عام 1948، وعمل في المسرح لأكثر من 35 عاما.
انتقل إلى دمشق عام 1971، لكن ذاكرته ظلت تعبق برائحة بلده الأم، إذ لازمت القضية الفلسطينية معظم أعماله المسرحية، منذ البدايات وحتى الآن.
وبدأ تجربته في المسرح الجامعي ومسرح الهواة، وكان معاصرا لتجربة سعدالله ونوس مع المخرج فواز الساجر، وقد قدم مع الأخير عدة أعمال مسرحية منذ عام 1977.
بعد ذلك، أسس فرقة أحوال المسرح، فقدم فيها أعمالا حملت توقيع الكاتب المسرحي ممدوح عدوان، ليحققا شراكة فنية أنتجت ثلاثة عروض ساهمت في تكريس اسم قدسية كواحد من الأسماء الشهيرة في عالم المونودراما العربي.
وشارك الممثل السوري في الكثير من الأعمال الدرامية والمسرحية، لكنه دائما ما يؤكد في حواراته الصحافية أنه عندما أتيحت له فرصة العمل المنفرد في المسرح، صار يتحمل المسؤولية كاملة عن العمل، لذلك حاول البحث عن خصوصية النص المسرحي الفلسطيني.

فالفلسطيني في الشتات سواء كان ممثلا أو غيره اندمج في مجمل الأوضاع والشروط الاجتماعية التي يعيشها المواطن العربي، ومن هذا المنطلق يرى قدسية أن الحديث عن الجانب الاجتماعي في حياة الفلسطيني لا بد وأن يكون له امتداد ومداخلات في الاجتماعي العربي بحكم التواجد والمعايشة والتزاوج، قائلا “الفلسطيني يعيش في ظل القانون الذي يعيشه المواطن العربي، يأكل نفس الرغيف وإن اختلفت طريقة خبزه، يتعامل كأخيه العربي مع مدرسة وثقافة وواقع، لذلك لا يمكن أن نقتلعه من هذا الاجتماعي الذي انصهر فيه ما يقارب الخمسين أو الستين عاما ونزج به في واقع منعزل لنؤكد على خصوصيته”.
لذلك كان الحديث عن هجرة الفلسطينيين وتشتتهم مرتبطا في مونودراما “القيامة 2” بهجرة السوريين جرّاء سنوات الحرب، فالهجرة هربا من الحروب وبطش الجماعات المسلّحة لا تختلف كثيرا من بلد عربي إلى آخر إلا أن أمل العودة إلى الوطن ممكن للجميع لكنه صعب على الفلسطينيين في الشتات.
ويقول قدسية إن المرح يمكنه أن يلعب دورا فاعلا في المجتمع “عندما ينبثق من دم الفقراء ويتفصد عرقا من جباههم وعندما يتحول إلى كابوس يقلق راحة أعداء الحياة، وعندما يتخلى عن دور الساتر ليفضح أسرارهم، وعندما يستشعر أعداء الحياة رهبة الداعية الذي ينشر أفكاره من فوق خشبة المسرح وعندما يتحول الممثل إلى حفارة أو بلدوزر، عندها فقط يصبح المسرح قويا وفاعلا ومهابا”.