محمد بن زايد والتأسيس الثاني للاتحاد

بالكثير من السلاسة آلت رئاسة دولة الإمارات العربية المتحدة إلى الشيخ محمد بن زايد بعد أن كان يباشرها على أرض الواقع لسنوات وهو اليوم يحظى بمبايعة شعبه الذي يرى فيه امتدادا أصيلا للأب المؤسس.
الاثنين 2022/05/16
رؤية سيادية اسمها إمارات محمد بن زايد

قد يكون من المصادفات أن الشيخ محمد بن زايد آل نهيان المولود في العام 1961 قد تولى مقاليد الحكم في بلاده وهو في الحادية والستين من عمره، وهو ثالث أبناء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان كما أنه ثالث رئيس لدولة الاتحاد منذ الإعلان رسميا عن تأسيسها في الثاني من ديسمبر 1962 بعد والده الشيخ زايد بن سلطان وأخيه الأكبر الشيخ خليفة بن زايد الذين كانا يمثّلان جيل التأسيس من ممثلية الحاكم في العين إلى إمارة أبوظبي وصولا إلى الدولة الوطنية الحديثة التي دخلت في ديسمبر الماضي عامها الحادي والخمسين.

كان الشيخ زايد الذي يعتبر أبا للدولة ورمزا وطنيا ومرجعية للمجتمع، قد رأى في ابنه الشيخ محمد امتدادا له من حيث الرؤية والحكمة والطموح، وقد أشرف بنفسه على مرحلة إعداده للحكم من خلال التربية والتعليم والتوجيه العملي لإدارة الشأن العام ولاسيما أنه كان قد تفتّح وعيه مع تولي والده الحكم في إمارة أبوظبي في صيف 1966، وكان قد بلغ العاشرة من عمره عند قيام دولة الاتحاد، وتربّى نفسيا واجتماعيا وثقافيا وقيميّا في إطار الهوية الوطنية الجديدة التي تكرست بتوحيد الإمارات السبع ودخول مرحلة الانفتاح الفعلي على العالم من خلال مشروع البناء والتنمية والنهضة الشاملة التي بدأت تتشكّل قبل نصف قرن من الآن.

خلال عقد التسعينات كانت الملامح العامة لشخصية محمد بن زايد قد بدأت تتبلور ليس فقط من خلال خصوصيتها العسكرية والاستراتيجية، ولكنها كذلك من خلال الرؤية السياسية والاجتماعية والقراءة المتقدمة لواقع الدولة والمنطقة، فهو وكما وصفه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ظِلّ زايد، باعتباره قد نما وترعرع في رحاب مجلسه وعلى صدى صوته ووفق رؤيته وثوابته، ولكنه كذلك نتاج جيل جديد منفتح على الثقافات والحضارات، لا يقنع بما تحقق ولا يخضع لشروط المحافظة التقليدية ولاسيما من الناحية السياسية، وإنما يطمح إلى دور رائد يتجاوز دور الدولة الثرية المنتجة للنفط والمستكينة لتحالفاتها الموروثة.

الشيخ محمد بن زايد أدرك باكرا أن المخطط قد يعصف بالجميع دون استثناء وأن الدولة الوطنية تبقى لوحدها الغطاء والوجاء للمجتمعات وللسلم الأهلي بينما لا يمكن الوثوق في جماعات الإسلام السياسي

في تلك السنوات، بدأت بصمات محمد بن زايد تظهر على عدد من القطاعات الاستراتيجية المهمة كالدفاع والأمن والإعلام والتعليم والثقافة، وأصبح اسمه يتردد بالكثير من الاهتمام باعتباره ظِلّ زايد بالفعل، وصاحب الامتياز في إقرار ما يراه صالحا. ولم يكن خافيا أنه بدأ منذ تلك المرحلة في التصدي لمشاريع التمكين لجماعات الإخوان الوافدة التي كانت قد بدأت تتحرك ضمن مخطط إقليمي لم يكن في حاجة إلى وقت طويل للكشف عن نفسه وعن عرّابيه الإقليميين والدوليين.

كان الشيخ زايد، من أكثر المتحمسين لرؤية ابنه الشيخ محمد، وفي ذات الوقت كان بالغ التقدير لابنه الأكبر الشيخ خليفة في مرحلة بناء أبوظبي وإدارة المنطقة الشرقية وقيام دولة الاتحاد وقيادة مرحلة التأسيس، والذي كان قد عينه وليا للعهد منذ العام 1969 بما يعني أن حكم أبوظبي ورئاسة الدولة كانا سيؤولان إليه تلقائيا بعد وفاته.

ولضمان تمكين ابنه الشيخ محمد من القيام بدور ينتظره ويحتاج إليه في أعلى هرم السلطة في الدولة، بادر الشيخ زايد في نوفمبر 2003 بإصدار قرار فريد من نوعه، ويتمثل في تعيينه نائبا لوليّ العهد على أن يتولى منصب وليّ العهد عند خلوّه، ويلغى كل مرسوم يتعارض مع ذلك المرسوم الذي قد يكون فاجأ الأوساط الدبلوماسية والمراقبين الأجانب، ولكنه شكّل للمجتمع المحلي نتاجا آخر لحكمة الشيخ زايد في سعيه لتأمين مستقبل الدولة التي أسسها ورعاها ووفّر لها كل ضمانات البقاء ودوام النجاح.

بوفاة الشيخ زايد في نوفمبر 2004، دخلت دولة الإمارات عهد الشيخ خليفة الذي واصل السير على نهج والده ضمن أطر كلاسيكية تفرضها توازنات الداخل والخارج، وفي الأثناء كان الشيخ محمد قد تولى الإدارة التنفيذية بالنسبة إلى إمارة أبوظبي وبالنسبة إلى دولة الإمارات ككل، وقد كان عليه أن ينتبه جيدا إلى المخاطر التي كان قد تعرض لها الأمن القومي العربي بعد حالة الفوضى التي شهدتها المنطقة واتساع نفوذ الجماعات المسلحة وميليشيات الإسلام السياسي وكذلك مع ارتفاع نسق التدخلات الخارجية والكشف عن مخططات لاستهداف استقرار الدولة الوطنية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وعن مؤامرات لم تكن تستثني أي دولة بما في ذلك دول الخليج.

أدرك الشيخ محمد بن زايد باكرا أن المخطط قد يعصف بالجميع دون استثناء، وأن الدولة الوطنية تبقى لوحدها الغطاء والوجاء للمجتمعات وللسلم الأهلية، بينما لا يمكن الوثوق في الميليشيات المسلحة والجماعات المتمردة مهما كانت هويتها، ولا في جماعات الإسلام السياسي التي لا تعترف بالهوية الوطنية للدول والشعوب، ولا في من يقف وراءها من القوى الإقليمية والدولية، ومن هذا المنطلق كان دور الإمارات واضحا ومعلنا وقويا في مواجهة مؤامرة بث الفوضى في البحرين، وفي دعم ثورة الثلاثين من يونيو في مصر، وفي مساندة الشرعية في اليمن، وفي التصدي للمشاريع الإرهابية التي كانت تستهدف العراق وليبيا وسوريا وغيرها، وفي تأمين القرن الأفريقي ومنطقة الساحل والصحراء، وفي تكريس تحالفات عربية وإسلامية ودولية فاعلة ضد الإرهاب بجميع تشكلاته، وكذلك في اختراق جميع الصفوف التقليدية والاندفاع بجرأة القرار إلى تنبي خطوات غير مسبوقة على مسارات التسامح والحوار بين الحضارات والثقافات والسلام مع الدول واعتماد سياسة صفر مشاكل مع الجميع باستثناء الساعين لاعتناق التوتر سبيلا وهدفا لتنفيذ الأجندات المشبوهة.

Thumbnail

منذ العام 2014 تقريبا كان الشيخ خليفة قد اختفى عن الظهور العلني بسبب مرض عضال نتيجة جلطة في الدماغ، وطيلة السنوات الماضية تولى الشيخ محمد إدارة شؤون الدولة مع إصراره على أن يكون الأخ البارّ بأخيه الأكبر، وكان في كل الظروف والمناسبات الرجل الذي يتحمّل مسؤولية قراراته الحاسمة والحازمة من خلال رؤية مبنية على جملة من الخيارات أهمها استقلالية القرار الوطني وضمان التوازن في العلاقات الخارجية والانفتاح على القوى العالمية الصاعدة واتخاذ القرارات الكبرى المتعلقة سواء بالأمن القومي أو المواقف السيادية والمصالح الوطنية، أو بالتعاون الإقليمي والدولي وبالتوجهات الداخلية في ترسيخ بنية ثقافية وحضارية متقدمة في انسجامها مع سياقات الواقع الجديد للدولة ضمن كوكبة الصدارة العالمية.

بالكثير من السلاسة آلت رئاسة دولة الإمارات العربية المتحدة رسميا إلى الشيخ محمد بن زايد، بعد أن كان يباشرها على أرض الواقع للعديد من السنوات، وهو اليوم لا يحظى فقط بأصوات أعضاء المجلس الأعلى للاتحاد حكام الإمارات الذين انتخبوه لقيادة البلاد، ولكن كذلك بمبايعة شعبه الذي يرى فيه امتدادا أصيلا للأب المؤسس، وأصبح معروفا لدى المراقبين والمحللين أنه من دشن ولا يزال يدير مرحلة التأسيس الثاني لدولة الاتحاد ضمن أسس المناعة والقوة واستقلالية القرار الوطني ومسابقة الزمن والمنافسة على مراكز التأثير الدولي سياسيا واقتصاديا وثقافيا.

ولعلّ، ومن خلال متابعة ردود الفعل العالمية سواء على نبأ رحيل خليفة أو انتخاب محمد بن زايد، يمكن الوقوف بجلاء عند المكانة الاستثنائية التي تتمتع بها الدولة لدى جميع الفرقاء الإقليميين والدوليين، وهي مكانة كان للرئيس الجديد دور رائد في تكريسها طيلة العقدين الماضيين عندما اختار بجرأة فائقة أن يتجاوز الموقع التقليدي المحافظ لدولة نفطية من الخليج العربي الثري إلى موقع الدولة القادرة على فرض خياراتها ورسم سياساتها وتوجيه مساراتها وفق مصالحها وأهدافها وبحسب ما يتطلبه أمنها القومي وأمن أمتها العربية، إضافة إلى القيم الإنسانية التي أصبحت لها حاضنة أساسية برؤية سيادية اسمها إمارات محمد بن زايد.

9