"أمس اليوم".. حكاية مراهق يكتشف جسده في قرية لبنانية بعيدة

بيروت - "أمس اليوم" هي الرواية الأولى للكاتب والباحث والمترجم اللبناني وضّاح شرارة، وهذا ما يجعلها رواية منتظرة بالنسبة إلى الكثير من متابعي الكاتب الذين عرفوه باحثاً أكاديميا ومعلقاً على السياسة وقضايا المجتمع.
تدور أحداث الرواية في الجنوب اللبناني، وهي مكتوبة ببلاغة معروفة عن الكاتب، وكأنه يتوجه بها إلى قرائه المهتمين دون إغفال العناية الفائقة باللغة مادة الكتابة علاوة على الحكاية التي تسير في تشعبات تسبر أغوار المجتمع اللبناني من خلال سرد تاريخ فردي هو في حقيقته وسيلة لسرد تاريخ جماعي من الزاوية الاجتماعية والسيكولوجية بشكل أساسي.
وتتحدث الرواية عن طفولة الراوي، فتبدأ من مرحلة انفصال والديه، وانتقاله للعيش مع أمه إلى قرية والده البعيدة في جنوب لبنان. وإذ تسرد الرواية معاناة الراوي خلال المرحلة الانتقالية من حياة الطبقة الوسطى المدينية، إلى النمط الريفي المحافظ، تعرض أيضا مغامراته الطفولية، ولاسيما الجنسية منها، في المدرسة ومع بنات العائلة، إن كان ذلك في القرية، أو حتى بعد الانتقال إلى المدينة مع الوالد.

ويبدو هذا الموضوع قليل الطرح في الأدب العربي، ألا وهو مرحلة المراهقة، تلك التي تبدو، كما يقول الكاتب السوري هيثم حسين "محمّلة بالتعقيدات بقدر ما توحي به من بساطة أحيانا، فالمراهق الخارج من قوقعة الطفولة يبحث عن اعتراف من قبل من هم أكبر منه سنّا، يشعر بأنّه جدير بالانتساب إلى مرحلة الشباب أو الرجولة، لكنّه يلقى صدّا غير مقصود، وما يمكن توصيفه من قبله بأنّه إنكار لحضوره، ما يبقيه في حيرة، ويشحن شخصيته بالمزيد من القلق المتجدّد الذي يستقي ديمومته واستعاره من ممارسات المحيطين به وأفكارهم عنه".
ونجد بطل الرواية المراهق مسكونا بهواجس البحث عن الذات بغية تحقيقها، واستحقاق الجدارة والاعتراف في الواقع، إذ يسعى لتغيير واقعه البائس وارتقاء السلّم الاجتماعي وتغيير بيئته، يفكّر بتغيير مصيره ويعيش تلك المفارقات التي تكاد تودي به في حربه المتجدّدة مع واقعه وكوابيسه وأحلامه معا.
ومع رواية شرارة نجد البطل ذاك المراهق الذي يعيش قلقا من ناحيتين، ينتابه شعور بالنبذ والتغريب ممّن هم أصغر منه وممّن هم أكبر، يكون حائرا في الانتماء، وباحثا عن صيغة ليبلور بها هويّته وشخصيّته، يمر بمرحلة اكتشاف للجسد، وتعرّف إلى خبايا عوالم الجنس الآخر، وقد يمرّ بمنعطفات خطيرة وينحو باتّجاهات متشدّدة، لأنّه يكون أرضا خصبة لامتصاص الأفكار وتقمّص الشخصيّات التي يعجب بها، أو يجد فيها أمانا آنيّا أو قدوة متوقّعة.
يقول بطل الرواية واصفا فتاة أعجب بها "حين لمحتها بطرف عيني رأيت على رأسها إكليل عروس وطبقات دانتيل أبيض، تعلو الطبقة منها الطبقة كأدوار الشرفات، وتتوّجها جميعًا طبقة ضيّقة وعالية، وعلى دائر الوجه والعنق، إلى الصدر والكتفين الرقيقتين، خمار من شبك دقيق يحجب قسمات العروس الفتيّة". إنه ذلك الإعجاب البريء المختلطة فيه رقة المشاعر التي تكتشف للتو وانتباه الشهوة التي تنطلق بالجسد إلى اكتشاف خباياه وخصوصيته وإمكانات أخرى له لتحقيق اللذة وترسيخ وجوده.
ورغم أن الكاتب العراقي محمد حياوي يرى أن التطرق إلى قضايا المراهقين ومشكلاتهم المعاصرة المتمثلة في القلق والشعور بانعدام الأمن وصعوبة الانسجام مع عالم الكبار وما تنطوي عليه من إثارة الاكتشافات الأولى قد لا يتلاءم وموضوعات الروايات التي تتناول في الغالب قضايا تاريخية أو عاطفية معينة، فإن رواية “أمس اليوم” نجحت في الجمع بين حكاية الصبى المثيرة تلك، وحكاية المكان، قرية جنوب لبنان، وطابعه الاجتماعي والاقتصادي وحتى الديني وغلبة العادات المحافظة، التي يحاول المراهقون تخطيها سرا.
وتمكّن شرارة من رسم ملامح بطله المراهق بدقة، رغم صعوبة تجسيد شخصية المراهقين في الأعمال الأدبية والفنية والتي تعود بالدرجة الأساس إلى صعوبة تركيبتها النفسية، وبالتالي صعوبة دمجها بسهولة في الأحداث، ما لم تكن مدروسة بعمق وموظفة بشكل مؤثر.
شرارة تمكّن من رسم ملامح بطله المراهق بدقة رغم صعوبة تجسيد شخصية المراهقين في الأعمال الأدبية والتي تعود بالدرجة الأساس إلى صعوبة تركيبتها النفسية
ولم تتوقف الأحداث عند مغامرات بطلها بل غاصت في المشاكل النفسية لفئة هشة من الأبناء تكون عادة ضحية لانفصال الوالدين ولسيطرة التقاليد والعادات البالية التي لا تولي خصوصياتهم أهمية ولا تسعى لخلق جيل منفتح ومتوازن بقدر ما تحاول السيطرة على مستقبل الصغار ومواصلة الهيمنة كمنظومة واحدة صالحة لكل زمن ومكان، وهو ما تنقده الرواية بشكل غير مباشر.
وتثبت هذه الباكورة الروائية الموهبة الراسخة لشرارة في كتابة يوميات الأحداث اللبنانية، إذ له مقدرة كبيرة على تناول الأحوال البيروتية والمدينية، وهو "الجامح في تناول الأفكار القديمة والجديدة" كما يصفه ناشره.
ووضّاح شرارة كاتب وعالم اجتماع لبناني ومترجم، كتب بالعربية والفرنسية، وصدر له 15 كتاباً في علم الاجتماع والسياسة تناول فيها تاريخ الجماعات اللبنانية، والتحولات الاجتماعية في بيروت وطرابلس، إلى جانب مسائل أخرى كثيرة. و"أمس اليوم" هي روايته الأولى التي صدرت منذ بضعة أيام عن دار هاشيت أنطوان/نوفل ببيروت.