جهاد العامري أندلسي ينقب في آثار المدن بحثا عن عاطفته

"غرناطتي غرناطة" صوت الشاعر الإسباني الجريح يمكن أن ينزلق على لسان الرسام جهاد العامري. وإذا كان العامري قد وضع الشاعر محمود درويش في مواجهة لوركا في معرضه "شاعران على قيد الحياة" الذي أقامه عام 2012 فلأنه قرر أن يختفي في الظل؛ ظل الشاعر الفلسطيني وظل غرناطة الذي يرافقه في كل لحظة حنين كما لو أنه عبدالله الصغير، آخر ملوك غرناطة.
غرناطة بالنسبة إلى العامري هي كل مدينة يُحن إليها حتى في ظل الإقامة فيها، وهو ما جربه بنفسه. هناك شيء مفقود يُرسم مثل جرح غائر. ليست الواجهة ما يُرسم بل كل ما يقع تحت القشرة. لذلك تبدو رسوم العامري أحيانا كما لو أنها تصوير لمناطق تقع تحت الجلد البشري. وهو ما يتيح له أن يمزج بين العاطفة والمكان، بين المادة والروح.
ولأن العامري متخصص بفن الحفر الطباعي فإنه يمارس التنقيب عن طريق الرسم. إنه يبحث عن ضالة تخونها التسميات. "ما الذي تبحث عنه؟" ذلك سؤال سيعيقه عن الاستغراق في الحلم. يمنع يديه من العمل ويعطل قواه البصرية. إنه يبحث عن كل شيء من غير أن يحدده مسبقا أو تكون لديه صلة سابقة به. ذلك الشيء الذي يحضر كما لو أنه كان موجودا دائما.
المدن المفقودة التي يُحن إليها
ليس العامري حارس أطلال. إنه يمارس التنقيب بحثا عن الأثر ورائحته. لذلك تمتزج الشخصيات بفكرة أن تكون موجودة في تلك اللحظة العابرة من التاريخ وهي فكرة الرسم. تلك الفكرة التي يفرض الوهم من خلالها طبائعه على الأشياء.
غموض يحيط بخطوطه المرسومة بحسرة الشخصيات والوقائع والأمكنة ليوحي بأنه يقع في زمان آخر. كل شيء بالنسبة إلى العامري يقع في زمن آخر هو زمن الفقدان، وهو ما دفعه إلى استلهام أشعار لوركا ودرويش بحثا عن القدس وغرناطة باعتبارهما مدينتي حلم ناقص وفي الوقت نفسه هما عتبتان للدخول إلى المخيلة.
الرسم بالنسبة إلى العامري هو مناسبة للصمت. رسوم لا ثرثرة فيها. فهي لا تصف ما رآه رسامها. ولا تُهدي مَن يراها إلى طريق بعينه.
ولد العامري في الأردن عام 1977. درس الرسم في الجامعة الأردنية ومن ثم سافر إلى إسبانيا ليحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة غرناطة.

أقام أكثر من عشرة معارض شخصية موزعة بين الأردن وقطر وإسبانيا وسويسرا. وشارك في العديد من المعارض الجماعية كما حاز على عدد من الجوائز منها جائزة جمال بدران من مؤسسة فلسطين الدولية عام 2014 وجائزة دبي الثقافية عام 2015 وجائزة أفضل فنان عربي يجسد القدس في أعماله الفنية عام 2017.
طبعت السنوات التي عاشها في غرناطة رؤيته الفنية بتأثيراتها، بل إنها تركت أثرا عميقا على تقنياته ومواده وطبيعة علاقته بسطح لوحته. فالمكان اتخذ طابعا روحيا في ذاكرة الفنان الذي امتزجت تأملاته الفكرية بمفردات ذاكرته البصرية بحيث صار المكان عاملا مهما في محاولة الوصول إلى خلاصات بصرية بعيدا عن الوصف المباشر.
تُمكن الإشارة هنا إلى عاطفة المكان وهي عاطفة لو أنها ألقيت على المكان لأسباب سياحية عابرة لكانت زائفة ولكنها عاطفة تنبعث من المكان نفسه بتأثير عمق الرؤية الفنية لدى الفنان والتي هي ليست نوعا من البحث المقصود عن جماليات المكان.
لقد سمحت حالة الفنان العاطفية بامتزاج مدينتي القدس وغرناطة كما لو أنهما مدينة واحدة أو أن كل واحدة منهما تكمل الأخرى وتقع في الطريق إليها بغض النظر عن الجغرافيا والظروف التاريخية وطريقة النظر لكل واحدة منهما بمعزل عن الأخرى. لم ينبعث سحرهما من هالة سبقتهما فحسب بل وأيضا من فكرة معجزة استعادتهما. فالعيش المباشر في غرناطة يشبه إلى حد كبير الحرمان من رؤية القدس. فكرة عن المكان الذي تحول إلى حلم مستعار من لحظة سعادة يعمل الفنان على استعادتها عن طريق الفن.
يرسم العامري سحر المكان. ذلك ما لا يمكن التحقق منه إلا من خلال السحر البصري الذي تمارسه لوحاته على المتلقي. مَن يرسم السحر ومَن يتلقى تأثيره البصري؟ تلك حكاية أخرى.
الحكاية التي تسبقه وتلحق به
لم يتحرر العامري من أسر الحكاية. تلك جملة قد لا تبدو واقعية في وصف الحالة التي يعيشها الرسام وهو ينتج رسوما تجريدية. ولكن التجريد هنا لا يقع بعيدا عن الحكاية بل إن الرسام لا ينكر تلك الصلة التي هي موقع اعتزازه.
يتمنى الفنان لو أن الحكاية كانت ناقصة لكان قد أكملها ولكنه مع ذلك يعمل على ملء فراغاتها. أيعقل أن تكون هناك حكاية تاريخية بفراغات؟ ذلك ما يحدث بالنسبة إلى المدن. فحين تتحول المدن إلى حكايات لا بد أن يكون هناك فراغ يقع بين الجهتين؛ الجهة التي تروي والجهة التي تُروى.
غرناطة بالنسبة إلى العامري هي كل مدينة يُحن إليها حتى في ظل الإقامة فيها، وهو ما جربه بنفسه. هناك شيء مفقود يُرسم مثل جرح غائر. ليست الواجهة ما يُرسم بل كل ما يقع تحت القشرة
الأبنية والزخارف والمآذن المعطلة والدروب الضيقة والحدائق والنافورات والخطوط كلها إيقاع ليس هامشيا كما يحدث لدى بعض الرسامين العرب الذين أخذهم التزويق بعيدا عن الرسم. الحكاية تظهر وتختفي ولكنها تظل موجودة داخل نسيج اللوحة وتحت طبقاتها المتراكمة. في كل لحظات التجريد هناك خيط - "وهو عنوان أحد معارضه" - يقود إلى حكاية ما؛ حكاية أندلسية يطوقها شعر الغزل.
الإيقاع بالنسبة إلى العامري هو نوع من الحكاية. لا يقتنع صاحب "ستارة أندلسية" بأن ما يراه من غرناطة هو كل غرناطة التي يحلم بها. لذلك فإنه في رسومه يبحث عن غرناطة التي تمنى العيش فيها. غرناطة التي يحلمها وهو مقيم فيها. تلك فكرة عن المكان الذي يُرسم. وهي فكرة شعرية أكثر من كونها واقعية.
سر الأشكال التي تتدفق
بسبب الحفر الطباعي تعلق العامري بالورق. مَن يقع في غرام الورق لا بد أن يتعلق بتقنياته. يهب الورق الرسام حساسية من نوع مختلف سيكون من اليسير عليه أن ينقلها إلى القماش. ذلك ما حرص عليه العامري وهو ينفذ أعماله الكبيرة في مختلف مراحل سيرته الأسلوبية.
مع الورق تنبعث الرسوم من الداخل وهي رسوم خطية لا تخفي الأصباغ طابعها الخطي. غالبا ما تخضع علاقة الفنان بالأصباغ لانجذابه إلى الخط باعتباره العنصر الأكثر تعبيرا عن العاطفة المتشنجة التي استطاع العامري من خلالها أن يسيطر نسبيا على انفعالاته التي تشكل أهم دوافع الرسم لديه.
العامري ليس حارس أطلال. إنه يمارس التنقيب بحثا عن الأثر ورائحته. لذلك تمتزج الشخصيات بفكرة أن تكون موجودة في تلك اللحظة العابرة من التاريخ وهي فكرة الرسم.
ذلك ما يظهر على سطوح اللوحات بما يشبه عملية الإذابة؛ إذابة الكائنات ذات الطابع التاريخي بمحيطها الذي تخلى عن مظهره المادي لتكون جزءا من ذلك العدم الذي يهز العواطف من غير أن يسعى لاستعادة وجوده المادي.لا يسبق العامري رسومه بتخطيطات تمهد لها، بل يرسم مباشرة. بالنسبة إليه فإن الأشكال التي تنبعث من الداخل تتدفق بقوة انفجارية في سباق محموم مع الانفعالات التي تقف وراءها. هناك نوع من تهشيم المادة لصالح وجودها الروحي.
يرسم العامري ليختبر عاطفته؛ عاطفة تقع في مكان فيما خيالها يقع في مكان آخر. تلك مكابدات العاشق الذي يمشي إلى مكان فيما قلبه يلتفت إلى مكان آخر. هي أشبه بوشمه الذي يرعى خيلاءه بكبرياء فارس أندلسي. الرسم بالنسبة إلى العامري مساحة مفتوحة للجدل الجمالي.