أحمد الجنايني.. مصري يصنع سرياليته بتأثير الواقع

التشكيلي المصري يعرف كيف يعزز من قوة اللون في اللوحة بحيث يستفيد منها في إغناء تكويناته بثراء تعبيري مجرد من أية فكرة فائضة.
الأحد 2022/04/10
ابن الثقافة المصرية وهو أحد صناعها

كنت مدعوا إلى مهرجان المحرس بتونس حين تعرفت عليه شخصيا أول مرة. قبلها كنت قد أعجبت به بسبب مجلة الخيال التي يترأس تحريرها. يومها أهداني نسخة من روايته “حين هربت عاريات مودلياني – سيرة الذاكرة واللون”. ما أن قرأتها حتى أدركت أن أحمد الجنايني يفكر بعمق في تكامل الفنون الأدبية والتشكيلية. فبعد سنوات اكتشفت أنه شاعر وقد أصدر عددا من الكتب الشعرية. كما أنه ناقد فني من طراز خاص. صعب الرضا غير أنه حين يرضى يندفع بحماسة للدفاع عن موقفه.

أحمد الجنايني، الرسام والشاعر والناقد هو الأمين العام لأتيليه القاهرة، ذلك الصرح الثقافي الذي يعود تاريخه إلى عقود من الزمن، ولولا استماتته في الدفاع عن ذلك الصرح في مواجهة محاولات انتزاعه لكان مجرد ذكرى كما حدث مع الكثير من الفنانين المصريين الذين هُدمت البيوت التي عاشوا فيها بسبب اختلاف الورثة وتقاعس الحكومة عن تحويلها إلى متاحف. لقد سكنت في فندق بالزمالك يقع على النيل أُقيم على الأرض التي كانت أم كلثوم قد أقامت عليها منزلها الذي عاشت فيه الجزء الأكبر من حياتها. لم يبق من ذلك الأثر سوى اسم أم كلثوم الذي صار اسما للفندق. دعاية سياحية مجانية.

مقاومة الجنايني كأمين عام لأتيليه القاهرة دفاعا عن ذلك الصرح بمواجهة محاولات انتزاعه، لولاها لكان مجرد ذكرى كما حدث مع الكثير من الفنانين المصريين الذين هُدمت بيوتهم
 ◙ مقاومة الجنايني كأمين عام لأتيليه القاهرة دفاعا عن ذلك الصرح بمواجهة محاولات انتزاعه، لولاها لكان مجرد ذكرى كما حدث مع الكثير من الفنانين المصريين الذين هُدمت بيوتهم

قاتل الجنايني من أجل الإبقاء على أتيليه القاهرة الذي التقيته فيه في زيارتي الأخيرة. وكما عرفته أول مرة، فقد كان مزيجا من الرسام والناقد الفني. يشعر بالأسى لأن المستوى الفني ليس كما يليق بمصر وحين حاولت أن أُخفف من تشدده انطلاقا من المعارض التي زرتها أنصت إلي بعينين مندهشتين. هما عيناه اللتان تشجعان المرء على الاستمرار في طرح أفكاره بحرية. عينا الرسام اللتان تفكران بخفة. ليس من الصعب إقناعه بأن هناك طريقة أخرى في الرؤية. لقد عاش زمن التحولات الفنية كلها وانتقل شخصيا بين أساليب فنية عديدة. غير أن السريالية كانت دائما قريبة منه في النظر إلى الواقع المصري ومحاولة نقل تفاصيله إلى سطح اللوحة.

في ذلك أعتقد أن الجنايني كان محقا، فكل شيء سريالي في مصر.

فضاء سريالي

ولد عام 1954 في الدقهلية. في أواسط السبعينات أنهى دراسة الهندسة بقسم القوى الميكانيكية. وبين عامي 1978 و1979 أشرف على دراسته الحرة للفن الفنان محمد حامد عويس في كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية. بدءا من عام 1980 قضى الجنايني عامين في ألمانيا لدراسة الفن بشكل حر، ثم عاش بين ثلاث مدن بولندية للغاية نفسها.

أقام أكثر من عشرين معرضا شخصيا موزعة بين مدن مصرية وألمانية وبولندية إضافة إلى معرضين في لبنان. في هذه الأثناء كان رئيس تحرير سلسلة الترجمة والنقد الصادرة عن جماعة رؤى للإبداع والأمين العام لأتيليه القاهرة ورئيس تحرير مجلة الخيال للثقافة البصرية وأخيرا رئيس تحرير سلسلة آفاق الفن التشكيلي.

صدرت له ثلاثة كتب شعرية هي “الحب في أيار”، “أطفال الناس” و”المجد ليس للأميرة”. ونشر الكثير من المقالات النقدية في الصحف المصرية.

يقول الجنايني إن السريالية الواقعية محاولة جديدة لصنع علاقة بين العمل الفني والمتلقي وذلك بخروج عناصر من العمل الفني وداخل العمل كظلال لعناصر ومفردات غير موجودة في مساحة العمل. ويضيف “هي محاولة جديدة أحاول إضافتها إلى العمل السريالي ليأخذ شكلا جديدا في علاقة العمل بالمتلقي”.

◙ غبطته القروية يجد فيها الجنايني فرصة لرؤية ما لا يمكن تجسيده من أفكار وسط صخب المدينة. وسوف يكون وحيدا هناك وسط هذيانات غرائبية

عام 2015 أقام الجنايني معرضا في القاهرة حمل عنوان “ذاكرة اللون والوجدان” اعتبره البعض خلاصة لمسيرته الفنية بسبب تنوعه. ولأن الجنايني لا يفوت فرصة للتعريف بعالمه من الداخل، فقد قال عن ذلك المعرض “الفترة الماضية كنت مشغولا بعلاقة الألوان بالوجدان ومشاعرنا، وكيف تتطور وتتغير علاقتنا باللون مع مرور الزمن ومع خبراتنا وتجاربنا المختلفة، لذلك فقد حرصت على التعبير عن هذه التساؤلات في الأعمال المعروضة، وهي تجربة جديدة أكتشف معها آفاقا مختلفة ومدهشة للون والزمن”.

تلك هي خلاصة فكرته عن الإقامة في الرسم، وهو هنا يذكرنا بـ”سيرة لذاكرة اللون” العنوان الفرعي لروايته. من وجهة نظره فإن اللون كيان مستقل بذاته. وليس بالضرورة أن يكون وسيطا تعبيريا أو مساحة لملء الفراغ. لطالما رسم الجنايني من أجل أن يتماهى مع قوة اللون ولم يكن يحرجه في شيء أن تكون النتيجة تجريدية. فهو في فنه يجمع بين الواقعي والتجريدي والسريالي.

الثابت في تجربته ذلك النزوع التلقائي نحو التفكير السريالي. فهو غالبا ما يستعمل مصطلحات اخترعها من أجل تجنيس فنه أسلوبيا، كأن يقول “سريالية الواقع” أو “سريالية التجريد” وهي محاولة لتفسير ذلك التداخل بين الأساليب الذي ينسجم مع طريقته في المزج بين ما هو حسي وما هو ذهني في مقاربة تستبعد الغنائية وتقلل من تأثير العاطفة. سيكون الشعر أقل قوة في مواجهة العصف الذهني.  كان من الممكن أن يكون الجنايني رسام أفكار لولا أنه شاعر في الأساس. وهي صفة حاول الفنان أن يتحكم بحركتها والمساحة التي تحتلها. لقد عرف كيف يعزز من قوة اللون في اللوحة بحيث يستفيد منها في إغناء تكويناته بثراء تعبيري مجرد من أية فكرة فائضة. ذاكرة اللون وسيرته الشخصية هما الشيء نفسه.

إلهام القرية

 الجنايني يصف السريالية الواقعية بأنها محاولة جديدة لصنع علاقة بين العمل الفني والمتلقي، بخروج عناصر من العمل الفني كظلال لمفردات غير موجودة في مساحته
الجنايني يصف السريالية الواقعية بأنها محاولة جديدة لصنع علاقة بين العمل الفني والمتلقي، بخروج عناصر من العمل الفني كظلال لمفردات غير موجودة في مساحته

عبر مراحله المختلفة كان الفن المصري يجد في القرية مصدر إلهام جمالي. لا يتعلق الأمر بالأسلوب. هناك متعة عظيمة لدى المصريين في العودة إلى القرية. ربما لأن هناك فكرة عن الهوية ظلت مهيمنة على الفن المصري لا علاقة لها بالسياسة. ذلك هو الأثر الذي اتبعه أحمد الجنايني في عودته إلى القرية وقد اعتبرها “منبع معظم أعماله”. وهو في ذلك إنما يوضح سر العلاقة التي تربطه بالقرية بالرغم من أنه لا يبالغ في استعمال الإشارات والرموز الجمالية بأجواء القرية وطقوس ناسها.

لا يرسم الجنايني القرية التي يعود إليها دائما بل يحتفي بمؤثراتها العاطفية كما لو أنه ينصت إلى موسيقى تنبعث من أعماقه. بهذه الطريقة يرسم. “هل رأيت حقولا؟”، “هل رأيت فلاحين؟” كما لو أنك تود أن تعري الجنايني من تجريديته وسرياليته لتصنع منه رساما واقعيا. ذلك لن يقع أبدا.

◙ اللون كيان مستقل بذاته عند الجنايني، وليس بالضرورة أن يكون وسيطا تعبيريا لملء الفراغ، إذ لطالما رسم من أجل أن يتماهى فقط مع قوة اللون

الجنايني رسام متأمل. يجد في غبطته القروية فرصة لرؤية ما لا يمكن تجسيده من أفكار وسط صخب المدينة. سيكون وحيدا هناك وسط هذيانات غرائبية. هو الآخر القادم من مكان مختلف ليتلقى الإلهام. ذلك المصري المختلف الذي يبعث في الأشياء روحا جديدة.

الأكثر رقة

يرسم ويكتب شعرا ونقدا ورواية ويقاتل من أجل أن تستمر المؤسسات الثقافية التاريخية في الحياة. ذلك هو أحمد الجنايني الذي ما أن التقيته في أتيليه القاهرة حتى فاض في التعبير عن استيائه اعتراضا على الرثاثة التي وصل إليها الرسم في مصر. وحين قلت له ما يعارض فكرته نظر إلي مندهشا كما لو أنني قادم من كوكب آخر. ما يعرفه أكثر تعبيرا عن الواقع. ذلك حقيقي. فالرجل هو ابن الثقافة المصرية وهو أحد صناعها كما أنه يتميز بالاستثناء كونه ناقدا.

الجنايني رساما هو أحد أبناء جيل لا يزال يدافع عن قواعد التصوير. صوته العالي في الواقع لا ينعكس على صوته الخفيض في الرسم. ذلك الصوت الحالم الذي يبني عالمه في أكثر الأماكن رقة.

 

9