"الأصفار والآحاد" غوص في الظلام لمطاردة شبح الإرهاب

تضيق مساحة التجريب من بين المنجز السينمائي العالمي بالمقارنة مع مساحة الاستثمار في الأفلام ذات الطابع التسويقي التجاري، خلال ذلك يعلم منتجو الأفلام التجريبية أنها تواجه جمهورا نخبويا محدودا، وهو الجمهور الذي يبحث عن تلك القلة من الأفلام والمخرجين الذين يقدمون ما هو مختلف.
وها نحن في فيلم “الأصفار والآحاد” مع مخرج تجريبي في نظر النقاد أو مخرج يندرج ضمن موجة الأفلام السوداء الجديدة وهو المخرج الأميركي من أصول إيطالية – أيرلندية أبل فيريرا في آخر أفلامه التي تندرج في إطار تجاربه الخاصة المثيرة للجدل.
يعلن فيريرا مسبقا أن فيلمه هذا ما هو إلا امتداد لفيلميه السابقين “توماسو” 2019 و”صربيا” 2020، وحيث نجمه المفضل فيها هو وليم ديفو، وأما في هذا الفيلم فالشخصية الرئيسية هو جي جي (الممثل إيثان هاوك) الذي يطل على المشاهدين منذ بداية الفيلم وهو يعرّف بالفيلم وكأنه هو مخرجه، مقطع فيديو تم تسجيله بكاميرا الموبايل بدا كسرا لقواعد كثيرة وأعادنا إلى الأفلام الأبسط والأقل احترافا، ولكن ذلك هو نهج فيريرا في المخالفة وفي ترك بصمته المختلفة.
☚ المراهنة على جمهور يمكن أن يصبر على فيلم من هذا النوع تبدو مراهنة صعبة لذا قد لا يجد القبول
وأما إذا نظرنا إلى جي جي الشخصية الرئيسية، فهو مسلح مكلف بمهمة في إيطاليا تتلخص في منع هجوم إرهابي يستهدف الفاتيكان، يظهر في مشهد ليلي بوصفه الشخصية الرئيسية حتى نحسب أن تلك العتمة والإضاءة المنخفضة كانت من ضرورات المشهد، لكن فيريرا يمضي مع شخصيته الرئيسية التي تخوض مغامرتها حتى النهاية في مثل ذلك الظلام.
وتأكيدا لتعريف المشاهد في أي زمن نحن فإن الشخصية الرئيسية وباقي الشخصيات دأبت على ارتداء الكمامات لندرك أننا في زمن كوفيد – 19، وكذلك ظهرت الشخصيات الأخرى وبحسب المخرج فيريرا فقد وصل الممثل إيثان هاوك إلى روما في وسط أزمة كوفيد عام 2020 عند تصوير الفيلم.
في المقابل هنالك شقيق جي جي وتوأمه وهو يروي ما في داخله من هواجس وأفكار تتعلق بالذات والكون والحياة وهو الخارج من حفلة تعذيب في الولايات المتحدة بسبب اتهامات تتعلق بالإرهاب.
هنا تتفاعل صورة الشقيقين حتى تلتبس الصورة الحقيقية للذات في وسط أزمتها ويصبح الإثنان وكأنهما صورة واحدة متطابقة لذلك الشعور المجسم بالبحث عن هدف ما في دورة الحياة وهو الذي يشعر جيجي بأنه مجرد صفر ورقم هامشي في المعادلة، بينما يحمل سلاحه وسط الظلام باحثا عن الخصم الذي طلب أن يقتص منه، وهو شبح الإرهابي المجهول.
وأما إذا مضينا إلى ما هو أبعد فإن الشخصية تحاكم قصة الدين من زاوية أخرى، فهو لا يرى في السيد المسيح إلا محاربا أو أنه وجد نفسه في حرب، ثم لينتقل إلى صلاة المسلمين وهو يجلس إلى جانب رجل كهل نفهم من الحوار في ما بينهما أن جي جي قد ارتدى ذلك الزي ومنذ ذلك الحين وقع له التغيير، وهو حوار إشكالي متذبذب لا تلمس منه مسارا واضحا محددا سوى تلك المحطات التي تتنقل فيها الشخصية ما بين الأزمنة والأماكن، وربما أراد التلميح بأن الإرهاب لا بد أن يمر في تجمعات المسلمين.
الآخر في هذا الفيلم يبدو وجوده غامضا ولا نهائيا في وسط تلك الدوامة الليلية غير المتناهية وهي في الواقع تحاول جمع تشظيات الذات وخاصة في سياق بحث جي جي عن شقيقه من جهة والقيام بمهمة حماية الفاتيكان من انفجار إرهابي مزعوم لم يقع قط.
في المقابل يتحدث المخرج في مقابلة عن ظروف إنتاج هذا الفيلم أنها كانت رغبة إيثان هاوك في إنجاز الفيلم، ومنذ تلك النقطة تم الانطلاق لتشكيل الأحداث والمضي بها قدما، إلى أن تم التوصل إلى الشكل الذي ظهرت عليه، لكن المخرج يعلم جيدا أن فيلما يظهر فيه هذا الممثل فإنه موجه إلى الصالات وليس فيلما نخبويا بكل ما يتطلبه ذلك من توفير الأسباب التي تجعل الأحداث أكثر إقناعا وقربا من ذائقة المشاهد.
وأما إذا مضينا في ذلك التعقب المضني بحثا عن الشقيق فإن النتيجة النهائية هي حوارية متواصلة كأنها بين الذات والذات في بحث متواصل عن خيط يوصل جي جي إلى هدفه، أو قل أهدافه كلها، مع أنه يعلم أنها مهمة حاسمة وهو يعرف أن المخرج لن يلجأ قط إلى الحلول السهلة ولن يقدم لجمهوره شخصيات سهلة اعتاد عليها الجمهور حتى صارت أفعالها متكررة ونمطية.
أما بالنسبة إلى فيريرا فإن ذلك الشكل الفيلمي الغارق في العتمة يقود إلى ذات الجدلية التي انشغل بها في أغلب أفلامه عن الذات والآخر والمصير والنعرة العدوانية لدى الشخصية وما إلى ذلك من المعطيات التي حملها الفيلم.
في كل الأحوال فإن المراهنة على جمهور يمكن أن يصبر على فيلم من هذا النوع تبدو مراهنة صعبة ولهذا لن يجد ذلك القبول ولا الإقبال الجماهيري لمشاهدته، لكونه في بعض الأحيان يبدو فيلما ملغزا وكأنه يجيب عن سؤال كيف تنتج فيلما في الظلام الدامس.