حياد أوكرانيا يغيّر توازن القوة في أوروبا إلى الأبد

الغزو الروسي لكييف أيقظ حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين.
السبت 2022/04/02
أوروبا بعد حرب أوكرانيا لن تكون كقبلها

أيقظ الغزو الروسي لأوكرانيا حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين الذين استفاقوا على حقيقة ضرورة حماية أنفسهم بعيدا عن استراتيجيات الحرب الباردة التي تقوم على وجود درع أميركية لحماية القارة العجوز.

واشنطن - تمكنت روسيا من إجبار أوكرانيا على تقديم تنازلات رفضتها في وقت سابق، إذ باتت حياديتها موضوع مفاوضات لإيقاف الحرب، فيما يقول محللون إن حياد أوكرانيا سيغيّر توازن القوى في أوروبا إلى الأبد.

وبعد مرور 5 أسابيع على بداية الغزو الروسي لأوكرانيا دون أن تظهر في الأفق أي بوادر للحسم العسكري لأي من الجانبين، يمكن القول إن أوكرانيا تدفع ثمن تحديها لموسكو بتشجيع من الغرب منذ الثورة البرتقالية عام 2008.

وسعت كييف للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي الطموحات التي تعارضها روسيا تماما وتعتبرها تهديدا مباشرا لأمنها القومي.

ويقول المحلل الأميركي رامون ماركس إنه على مدى أكثر من عشر سنوات رفضت أوكرانيا التفاوض حول إعلان حيادها بين روسيا والغرب أو إقامة علاقات وثيقة مع موسكو.

وعلى الرغم من التهديدات الروسية المتكررة و"الخطوط الحمراء" وقفت كييف في وجه فلاديمير بوتين. وهذه المقاومة الأوكرانية أدت في النهاية إلى خسارة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا، ونشوب حرب أهلية أشعلتها موسكو في إقليم دونباس الأوكراني قبل إعلان انفصاله بعد ذلك.

وفي نهاية المطاف تعرضت أوكرانيا لغزو صريح من روسيا. كما شجعت الديمقراطيات الغربية أوكرانيا على اتباع هذا النهج الدونكيشوتي، في حين أعلنت أنه ليس أمام أوكرانيا أي فرصة للانضمام إلى الناتو في المدى القريب.

الغزو الروسي يدفع أوروبا إلى التخلي عن هيكل الحرب الباردة الذي يقوم على أساس وجود درع أميركية لحماية أوروبا

ومع ذلك يمكن القول إن أوكرانيا حققت الآن المستحيل بفضل الدعم العسكري من الناتو وأبطأت الغزو الروسي لأراضيها وجعلته يمضي في طريق مسدود.

ويرى ماركس أن الشروط التي قد تنهي بها روسيا وأوكرانيا الحرب بينهما ستخضع في نهاية المطاف لخيارات الشركاء المتحاربين أكثر من أي طرف آخر. فبعد بدء الغزو الروسي تراجعت أوكرانيا عن موقفها الرافض لإعلان حيادها.

ورغم أن الدستور الأوكراني ينص على السعي للانضمام إلى حلف الناتو، أشار الرئيس فولوديمير زيلينسكي إلى استعداد بلاده للتراجع عن هذا الخيار بعد ثلاثة أيام من بدء الحرب.

وستكون المفاوضات بشأن حياد أوكرانيا صعبة للغاية، ومن المحتمل أن يدعو زيلينسكي ونظيره بوتين إلى تعهدات سياسية من جانب واشنطن والناتو لضمان الوضع المحايد لأوكرانيا، وربما يكون على غرار اتفاقية الدولة النمساوية لعام 1955.

وكانت الولايات المتحدة طرفا مصدقا على معاهدة حياد النمسا إلى جانب فرنسا وبريطانيا. وفي ظل انسحاب الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي الإيراني، فإن روسيا قد تصر على توقيع واشنطن وحلف الناتو على معاهدة حياد أوكرانيا، وليس الاكتفاء بمجرد التزام قانوني من الطرفين وباحترام مثل هذه المعاهدة التنفيذية.

وستواجه الإدارة الأميركية صعوبة كبيرة في تمرير مثل هذه الاتفاقية في مجلس الشيوخ، لذلك فقد تحاول وزارة الخارجية الأميركية إيجاد بديل يمكن لمجلس الشيوخ قبوله وفي نفس الوقت يستجيب لمطالب روسيا وأوكرانيا.

وستخلق أي صيغة لحياد أوكرانيا صعوبات دبلوماسية بالنسبة إلى واشنطن. ولا شك أن بوتين سيحاول الحصول على نهاية للعقوبات الغربية كشرط إضافي لإنهاء الأعمال العدائية.

مفاوضات الحياد صعبة وتتطلب التزاما من الجانبين
مفاوضات الحياد صعبة وتتطلب التزاما من الجانبين 

وفي الوقت نفسه فإن رفع هذه العقوبات سيصطدم بمعارضة القوة الليبرالية في العالم والتي تؤكد مسؤولية الولايات المتحدة عن دعم “الشعوب الحرة”.

وستؤكد هذه القوى صعوبة القبول بعدم معاقبة روسيا على غزو أوكرانيا واحتلال شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، حتى إذا قبلت أوكرانيا بهذا من أجل إنهاء الحرب ضدها.

وسيسعى أنصار العولمة لضرورة معاقبة روسيا على الحرب كما تمت معاقبة ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى وإلزامها بدفع تعويضات عن الخسائر التي سببتها الحرب.

وسيكون الوصول إلى اتفاق سلام في أوكرانيا شبه مستحيل إذا رفض الغرب صيغة اتفاق تضمن عدم إهانة أي من الطرفين الروسي والأوكراني.

وفي حين دفعت أوكرانيا ثمنا باهظا للحرب الروسية، فإن هذه الحرب أدت إلى تحول في توازن القوة سيؤدي إلى فوائد استراتيجية ليس فقط لأوروبا وإنما أيضا للأمن العالمي. فالحماقة الروسية في أوكرانيا أيقظت حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين. وبدأت الدول الأعضاء في حلف الناتو تحديث جيوشها حتى تتمكن من الدفاع عن نفسها ضد أي عدوان روسي بالأسلحة التقليدية.

ويمكن للدول الأوروبية الوصول إلى الهدف. وفي الوقت نفسه فإن العملية العسكرية أظهرت أن الجيش الروسي ليس العملاق الذي يخشاه الغرب. كما أن إجمالي الناتج المحلي للدول الأوروبية الأعضاء في الناتو يبلغ حوالي 20.4 تريليون دولار وهو ما يساوي تقريبا إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة.

فيما دفعت أوكرانيا ثمنا باهظا للحرب الروسية، فإن هذه الحرب أدت إلى تحول في توازن القوة سيؤدي إلى فوائد استراتيجية ليس فقط لأوروبا وإنما أيضا للأمن العالمي

وفي المقابل فإن إجمالي الناتج المحلي لروسيا لا يزيد عن 1.5 تريليون دولار. كما أن عدد سكان روسيا البالغ 140 مليون نسمة يتراجع، مقابل نمو عدد سكان الديمقراطيات الأوروبية البالغ عددهم 600 مليون نسمة.

وستكون بريطانيا وفرنسا وألمانيا إلى جانب دول أوروبا الـ26 الأخرى قادرة على التصدي لأي هجوم روسي متهور على أي دولة عضو في الناتو. كما أن إجمالي تعداد قوات دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة يبلغ حوالي 1.26 مليون جندي في حين أن قوام الجيش الروسي قبل غزو أوكرانيا كان 900 ألف مقاتل عامل.

ويقول ماركس إنه يجب أن يكون ضمن أولويات السياسة الخارجية الأميركية نقل الجزء الأكبر من مسؤولية الدفاع عن أوروبا إلى حلفائها الأوروبيين. وبالتدريج يقل الوجود العسكري الأميركي في أوروبا دون أن يعني هذا تبني واشنطن لسياسة انعزالية، وإنما يعني السماح لواشنطن بإعادة نشر قواتها لمواجهة التحديات العالمية الأخرى.

والمفارقة هي أن أكبر عقبة أمام تحقيق هذا التغيير لن تكون المعارضة الأوروبية وإنما العقلية السائدة في واشنطن. فعلى مدى الأعوام الـ75 الماضية قامت استراتيجية الأمن القومي الأميركي على مبدأ ضرورة ممارسة الولايات المتحدة للقيادة العسكرية على مستوى العالم لحماية الديمقراطية.

وفي حين تبحث أوروبا عن البدائل لتشكيل قوة قتالية فعالة، يجب أن يقبل الدبلوماسيون والعسكريون الأميركيون بالحتمية التاريخية. وسواء كان ذلك في إطار حلف الناتو أو جنبا إلى جنب بدائل أخرى مثل مبادرة "البوصلة الاستراتيجية لقوة الدفاع الأوروبية" التي أقرها وزراء الدفاع الأوروبيون، يجب أن يكون الهدف هو دعم الأوروبيين في الوصول إلى الصيغة الملائمة لضمان أمنهم.

ويرى ماركس أن من بين النتائج الاستراتيجية للغزو الروسي لأوكرانيا ضرورة تخلي الديمقراطيات الأوروبية عن هيكل الحرب الباردة الذي عفا عليه الزمن والذي يقوم على أساس وجود درع أميركية لحماية أوروبا.

5