عودة الذات البشرية للبحث عن قيمة الحياة زمن الجائحة

الموت، حالة التوقف عن الحياة المؤلمة للأحياء لا الأموات وتلك المسألة الوجودية الوحيدة التي يبحث الإنسان منذ بدء الخلق في ماهيتها، ويصوغ حولها القصص والأساطير، لكن الغالبية منا يفكر دوما في أسباب الموت دون أن نتساءل يوما ماذا لو انعدم الموت عن أداء مهمته الوجودية؟ وانطلاقا من هذه التساؤلات يبحث المخرج التونسي علي اليحياوي في ماهية الموت ويمتدحه مبرزا جوانبه السلبية والإيجابية سواء حظر أو غاب.
تونس - عاد المخرج التونسي علي اليحياوي بالشراكة مع الكاتب المسرحي رضا بوقديدة إلى الأدب البرتغالي ليقتبسا منه مادة روائية ويحوّلانها إلى عمل مسرحي لا ينفصل عن الواقع بل ينصهر في السنوات الماضية التي سجنت البشرية في وباء عجزت عن التصدي له وإيقاف تفشيه إلى الآن.
وفي إطار تظاهرة أيام مسرح المدينة المتوسطي، احتضن مسرح الجهات بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي مسرحية “في مديح الموت” وهي من إنتاج مركز الفنون الركحية والدرامية بتطاوين وإخراج علي اليحياوي.
والمسرحية واقعية ومقتبسة من رواية “انقطاعات الموت” للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، وتشمل أحداثها ما مر به العالم ضمن جائحة وباء كوفيد – 19 الذي أيقظ صحوة الإنسان الوجودية.
و”في مديح الموت” مسرحية لإعادة التفكير في المسائل الجوهرية التي تتبلور بين معنى الحياة تفاضلا مع هاجس الموت الحتمي، وتكشف المشاعر الممزوجة لدى الإنسان بين الخوف من قضاء الموت وبين أمل الحياة وحبها.
وتعالج المسرحية معنى الموت بطريقة فلسفية ورمزية، فالموت هنا ليس بمعناه الجسدي فقط بل بالمعنى القيمي والأخلاقي والمجتمعي، ويخضع اليحياوي فلسفة الموت إلى العديد من الجوانب منها الديني والمنظور الاقتصادي والاجتماعي.
كما تبحث المسرحية في عودة الذات البشرية للبحث عن قيمة الحياة والإحساس الخفي لفقدانها في ظرف صحي مستعص فاق القدرات البشرية خاصة في المجالات العلمية، وهو ظرف مباغت كشف النواقص داخل المجتمع ورفع الستار حول الاختلافات الفكرية والدينية والأخلاقية التي ترى بين طيات مشاهدها وآراء الشخصيات في الحوارات فيما بينها.
وجمع اليحياوي في هذا العمل مجموعة من الممثلين من أجيال مختلفة من بينهم المسرحي كمال العلاوي في أول تجربة له في الجنوب التونسي مع مجموعة من الممثلين معظمهم من أبناء الجهة وهم أمينة الدشراوي وعواطف العبيدي ومحمد الطاهر خيرات وحمزة بن عون وأسامة حنايني وعلي قياد ورياض رحومي وعبدالسلام حميدي وعمر الجمل وأنور بن عمارة وهيفاء كامل، وهي من توضيب ركحي عام لعبدالله شبلي.
وتجلى الجمع بين مسارات وأجيال مختلفة من الممثلين في حضورهم على الخشبة وأدائهم المسرحي، حيث كان شرحهم للموضوع الفلسفي بالكثير من التناغم والتكامل حيث ينتقلون من شخصية إلى أخرى بسلاسة وسرعة، ويراوحون بين حالة نفسية وأخرى وبين فكرة وفكرة أخرى تناقضها تماما في لحظات وكأنهم يسارعون الزمن أو ربما يسارعون طيف الموت الذي يحوم حولهم ومعه يسارعون في طرح الأسئلة واستفزاز المتفرج لدفعه هو الآخر نحو التساؤل حول جدلية الحياة والموت.
المسرحية تعالج معنى الموت بطريقة فلسفية ورمزية، فالموت هنا ليس بمعناه الجسدي فقط بل بمعناه القيمي والأخلاقي
ويكشف غياب الموت في المجتمع هشاشة الواقع الاقتصادي الذي يفوقه الواقع السياسي سوءا فرئيس الحكومة ووزراؤه هم من يقرّرون، رغم الأزمة المفاجئة التي تكاد تعصف بالبلاد، دون العودة إلى رئاسة الجمهورية، ويتناحر الوزراء بسبب اختلاف المصالح والرؤى، فالكل يبحث عن مصلحته الذاتية والترقيات الممكنة في السلم الوظيفي على حساب المجموعة التي تعاني من الخوف في غياب الموت، ذلك الحدث الجلل الذي إن حضر أربك وإن غاب دمّر الدول وقلبها رأسا على عقب.
ولا تقف فلسفة الموت في “مديح الموت” عند هذا الحد، بل يمدحه اليحياوي وبوقديدة من وجهة نظر تمتد إلى الجوانب الثقافية والفكرية في تونس وربما أيضا في العالم العربي، والمسرحية تمدح فكرة الموت الرمزي لكنها تؤكد في الآن نفسه أن الموت الفكري أو الجسدي يعجز عن قتل الرموز، يجسده الحوار الثنائي الذي يدور بين شخصية الموت (أمينة الدشراوي) و(كمال العلاوي) الذي يحضر باسمه وصفته على الخشبة وغرضه التساؤل عن ميعاد الموت، وهو الأستاذ والممثل الكبير ذو التجربة الفنية الواسعة، فتخبره أن ميعاد موته “مازال بكري عليه” (لم يحن وقته بعد).
ويأتي هذا الحوار في إشارة إلى أن المبدعين حتى وإن رحلوا عن عالمنا، فآثارهم لا تزول، وخير دليل على ذلك جوزيه ساراماغو الذي رحل في العام 2010 لكن مؤلفاته وأعماله الروائية لا تزال تلهم المسرحيين والسينمائيين لاقتباسها والبحث في مواضيعها، كما تجذب القراء ومحبي الأدب لقراءتها والتفكير فيها وحتى النقاش حولها.
وتعتبر رواية “انقطاعات الموت” ملحمة في مديح الموت كتبها الأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو في العام 2005، ويطرح فيها تساؤلات وجودية حول الموت، ويدعو فيها بأسلوب كوميدي ساخر إلى محبة الموت حيث يضع حسه الفكاهي وسخريته اللاذعة القارئ منذ بداية الصفحات أمام مفاجأة فانتازية صاعقة، مع غياب فعل الموت.
فلسفة الموت في "مديح الموت" لا تقف عند هذا الحد بل يمدحه اليحياوي وبوقديدة من وجهة نظر تمتد إلى الجوانب الثقافية والفكرية في تونس وربما أيضا في العالم العربي
وفي الرواية ينقطع الموت في دولة صغيرة – لا اسم لها – فيصبح سكانها لا يموتون بل يبقى مريضهم على حاله، وقد يبدو الأمر رائعا في البداية لمن يتوقون إلى الخلود، لكن سرعان ما يوضح ساراماغو حجم الكارثة التي تهدد البشرية، فالحكومة لا تستطيع التعامل مع هذا الموقف غير المألوف، فيتعثر نظام المعاشات التقاعدية ولا تعود المستشفيات ودور المسنين تفي بالغرض، ومؤسسات تجهيز الموتى ودفنهم تسجل إفلاسا غير مسبوق.
لقد أثار غياب الموت فوضى ليس لها مثيل ولم تعرفها المجتمعات من قبل وعلى البشرية أن تقبل به كوجه العملة الآخر للحياة، فالمرء لا يستطيع العيش دون الموت، مع أنه يظهر كتناقض ظاهري للحياة ولكننا في الحقيقة يجب أن نموت لكي تستمر الحياة.