على طريق الحداثة

كان فجر الحداثة في مصر قد انبثق في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وليس مثلما يزعم الكثيرون بأن الانبثاق جاء على إثر الحملة الفرنسية التي بدأت قبل سنتين من انطواء ذلك القرن. وربما كان حسد الأميركيين للفرنسيين على ذيوع صيتهم في هذا الشأن هو الذي حفز مؤرخا أميركيا على إصدار كتاب بعنوان “الجذور الإسلامية للرأسمالية: مصر من 1766 – 1835”. ففي ذلك الكتاب أكد المؤرخ بيتر غران على أن صحوة مصر بدأت في النصف الأخير من القرن الثامن عشر وأن العشرات من المخطوطات التي اطلع عليها في دار الكتب المصرية وفي مكتبة الجامع الأزهر تثبت أن الثقافة في مصر كانت مزدهرة على يد علماء الأزهر وعلى رأسهم رائد الحداثة المصرية الشيخ حسن العطار مع تلاميذه ومريديه، ومن بينهم – بعدئذ – رائد آخر هو رفاعة الطهطاوي. وكان العطار هو الذي اقترح اسم الطهطاوي على محمد علي لكي يترأس بعثة الطلاب الذين أرسلهم إلى باريس. وعن الشيخ العطار يتحدث المؤرخ الأميركي بيتر غران فيقول إن هذا الشيخ أصدر نحو خمسين كتابا، معظمها يثبت نزعته التجريبية والعلمية، وقد تناول أحدها إنجاز ابن النفيس الذي اكتشف الدورة الدموية قبل الطبيب الإنجليزي هارفي بعد عقود وذهب بيتر غران إلى أن مصر لم تكن خالية من الحياة الثقافية والعلمية قبل ما يسمى “الصدمة الحضارية” التي أصابتها بتأثير الحملة الفرنسية بأربعين سنة، وقبل عودة الطهطاوي من فرنسا إلى مصر وتأسيسه لمدرسة الألسن.
كان المؤرخ الأميركي قد أقام في مصر ثلاث سنوات منذ العام 1968 عكف خلالها على المخطوطات والكتب النادرة، فساعدته تلك على معرفة المنظور العربي للتاريخ بعيدا عن منظور أي مؤرخ رافق القوى الاستعمارية. فمثل هذا الأخير، يحاول بكل وسيلة إرجاع الحداثة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية إلى التأثير الغربي على العالم الثالث بأسره، وليس على مصر وحدها.
للأسف، لم تجد كتب ومخطوطات الشيخ حسن العطار من قبل المؤرخين والدارسين العرب الاهتمام الذي يليق بها ويظهرها للأجيال الجديدة من النابهين. وفي سياق البحث عن الروح العربية الموحدة على مر العصور، يصادفنا كتاب “المصريون” الذي أصدره باللغة الفرنسية قاسم أمين، رائد تحرير المرأة في التاريخ العربي الحديث، وترجمه إلى العربية حفيده قاسم وأصدره سنة 2012 في ذكرى الثورة العرابية. وكان قاسم أمين قد وضع كتابه بالفرنسية للرد على الاتهامات الظالمة التي روجها الدوق داركور عن مصر والمصريين في كتاب يكرر الخزعبلات التي ما يزال بعض الباحثين والكتاب يلوكونها عن الشرق العربي بوجه عام وعن مصر بوجه خاص من منظور الاستعلاء الغربي المعهود.
وباعتبار أن التلاقح والتأثير المتبادل بين الأمم مسألة موضوعية تفرضها طبيعة العلاقة بين البشر، فقد أقر قاسم أمين الحفيد بأن ما زعمه داركور هو الذي أوحى لقاسم الجد بموضوع كتابيه “تحرير المرأة” في العام 1899 و”المرأة الجديدة” في العام 1900. وكان موضوع الكتابين ثمرة تلاقي آراء قاسم أمين مع آراء جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. ذلك فضلا عن معرفة قاسم العميقة بالثقافة العربية الإسلامية وبالقانون الفرنسي الذي درسه في جامعة مونبلييه.
ليس أدل من ذلك السياق على أن فكرة الحداثة قد انتعشت في بدايات القرن العشرين الذي شهدنا في ربعه الأخير تفشي الفكر الظلامي بألسنة وأقلام وأفاعيل وتوجهات أناس لم يصيبوا علما لا بالدين ولا بالثقافة والحياة.