المسرح يتسلّل عائدا إلى طرابلس بعد عقود من الإغلاق

طرابلس (لبنان) - ينشغل اللبنانيون بإصلاح وتحسين ظروفهم الاقتصادية ومنازلهم وعقاراتهم التي دمرها انفجار مرفأ بيروت ولا تزال آثار الكارثة واضحة عليها، في المقابل ينشغل بعض الفنانين بإصلاح مسارح آيلة للسقوط محاولين إحياء تاريخ من الفن كاد يندثر.
ويتردد صدى صوت هسهسة خرطوم المياه الذي يرش الأرض حول جدران دار أمبير السينمائية في مدينة طرابلس شمال لبنان. ويفرز رجل مسامير على أرضية غرفة كانت ذات يوم مكتب تذاكر، بينما تزيل امرأة الغبار عن المرآة في الردهة المجاورة.
ويُشرف على جهود الترميم الممثل والمخرج قاسم الإسطنبولي البالغ من العمر 35 عاما والمعروف بأعماله المسرحية في جميع أنحاء لبنان.
ويقود فريقه الذي يضم سوريّا وفلسطينيا ولبنانيا وبنغاليا لمدة ثلاث ساعات من منازلهم في جنوب البلاد للعمل في المبنى، الذي شُيّد في أوائل أربعينات القرن الماضي ولكنه هُجر لعقود.
وكان مشروع الترميم الذي بدأ الشهر الماضي هو الأول من نوعه في طرابلس، ثاني أكبر مدينة في لبنان، والمعروفة في السنوات الأخيرة بالعنف الطائفي وغيره.
وقال الإسطنبولي: “ما نحاول قوله هو أن طرابلس مدينة الثقافة والفن. عندما تُفتح قاعة سينما ومسرح، سيأتي الناس ويحضرون. لكن إذا أعطيتهم سلاحا، فإنهم بالطبع سيطلقون النار ويقتلون بعضهم البعض”.
تاريخ طرابلس الفني يعتبر بالنسبة إلى معظم أنحاء لبنان، من بقايا الماضي وقد طغى عليه الفقر المدقع والفساد والهجرة
وبالنسبة إلى معظم أنحاء لبنان، يُعتبر تاريخ طرابلس الفني من بقايا الماضي، وقد طغى عليه الفقر المدقع والفساد والهجرة.
لكنّ لطرابلس تقليدا سينمائيا طويلا بشكل خاص، حيث كانت تضم في يوم من الأيام ما يصل إلى 35 دار سينما، بما في ذلك أول دار سينما في لبنان.
وتعتبر قاعة أمبير من آخر خمس دور سينما تاريخية لا تزال قائمة في ساحة التل بطرابلس، والتي تحيط ببرج ساعة قدّمه السلطان العثماني عبدالحميد الثاني هدية للبلاد في أوائل القرن العشرين. وأغلِقت القاعة في 1988 عند افتتاح مجمعات سينمائية ضخمة داخل مراكز التسوق، وازدياد شعبية مشغلات الفيديو المنزلية.
وحوّل الإسطنبولي، الذي أسس جمعية تيرو للفنون في مدينة صور الجنوبية، بالفعل ثلاث دور سينما مهجورة إلى أماكن للمسرح والسينما.
وقد أعاد ترميم مسرح ريفولي في صور في أوائل سنة 2018، ويهدف الإسطنبولي إلى تحويل قاعة أمبير إلى فضاء متعدد النشاطات يضم إلى جانب المهرجانات والمسرحيات مكتبة وأستوديو للفنون البصرية وورش عمل أيضا.
وليس هذا بالأمر الهين، مع تدهور الاقتصاد وحقيقة أن أكثر من 80 في المئة من السكان يعيشون في فقر.
وحتى قبل أن تؤدي الأزمة المالية إلى الكساد الحالي، كانت طرابلس بالفعل أفقر مدينة في لبنان. وعانت من إهمال الحكومة ونقص الاستثمار. كما كانت نقطة انطلاق رئيسية للهجرة غير الشرعية، حيث يتبع اللبنانيون الآن نفس المسار المحفوف بالمخاطر مثل السوريين الفارين من حربهم الأهلية، في محاولة للوصول إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.
واستوحى الإسطنبولي مشروعه من والده، وهو كهربائي كان يعمل في إصلاح دور السينما في الجنوب، وجده، الذي كان بحارا وحكواتيا راويا يرتدي الطربوش الأحمر أثناء سرد الحكايات الفولكلورية في مقاهي صور القديمة.
وقال إن “هذا المشروع سيحسن أحوال المدينة اقتصاديا. وسيجلب السياحة ويغير سمعتها”.
وقال تشارلز حايك، المؤرخ والناشط البيئي البالغ من العمر 39 عاما، إن هذا المشروع سيحقق أكثر من مجرد محاربة التصورات السلبية. وأكّد أن “قاسم ينقذ أحد المباني التراثية ويعيدها إلى الحياة”.
لقد فقدت طرابلس الكثير من تراثها المعماري خاصة حول برج ساعة التل في العقد الماضي بسبب الإهمال. وقبل الحرب الأهلية (1975-1990)، غنّى على مسرح “الانجا”، وهو من أقدم قاعات السينما في الميدان، اثنان من أكبر مشاهير الموسيقى في العالم العربي هما أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب. ثم هُدم هذا المبنى واستُبدل بمرآب للسيارات.
وبالنسبة إلى صناديق الترميم، دخل الإسطنبولي في شراكة مع مؤسسة دوان والمؤسسة الأورو – متوسطية لدعم المدافعين عن حقوق الإنسان. ويمتدّ عقد القاعة على خمس سنوات، ويأمل في أن تُفتتح رسميا في غضون ستة أشهر.
وبعد ظهر أحد الأيام، قاد الإسطنبولي المتطوعين الذين أنهوا الإصلاحات خلال تمارين التمثيل.
ولم تفكر مها أمين، إحدى الحاضرات من مدينة صور والتي كانت تزيل الغبار عن المرايا في الصباح وهي الآن على خشبة المسرح، في إمكانية التمثيل، ناهيك عن زيارة طرابلس.
وقالت معلمة الاحتياجات الخاصة البالغة من العمر 57 عاما: “لا تقبل البيئة التي نعيش فيها أن تقوم امرأة في عمري بهذا العمل”. وذهبت في البداية إلى مسرح ريفولي في صور لتسجيل أحفادها السبعة، ولكن الأمر انتهى بها بالانضمام إليهم.
وتابعت: “يحتاج الناس إلى التنفس والتعبير عن أنفسهم خاصة في الأوقات الصعبة اليوم. وأستطيع أن أقول ما أريده بحرية تامة هنا على خشبة المسرح بعد يوم طويل من العمل”.