عطالة الأقانيم الثلاثة

سياقات الخنق والاستغلال وتربح الأوساط الحاكمة لم تستثن الأمر المتصل بالعبادة وأركان الدين.
الأحد 2022/02/27
زيادات الرسوم خلقت لغزة حصراً

في كل تفصيل من حياة الناس في غزة هناك حكاية شقاء واعتصار. فما يراه كل منصف وموضوعي ومحايد سياسيا، في مشهد الشريط الساحلي القصير والضيق وكثيف السكان؛ ازدحام البراهين على بطلان الأقانيم الثلاثة التي انقض بشفاعتها حزبيون إسلاميون مسلحون على السلطة وتمكنوا من السيطرة على الحكم في يونيو 2007. وهذه الأقانيم الثلاثة هي: الحُكم بشريعة الله، الذي تقوم عليه “مصاحف متحركة” حسب تعبير سيد قطب. والمقاومة التي لا تتثاءب، وترى الخيانة البليغة، في محض التوقف عن إطلاق النار لبرهة لدواعٍ ميدانية، أو لحسبة الربح والخسارة. أما الأقنوم الثالث، وهو الأكثر روحانية؛ فهو الدفع بالمجتمع إلى مزيد من الطُهرانية والسعادة الروحية والمادية، بفضل الكفاية والعدل والحكم الرشيد!

لكن ما آلت إليه الأمور بعد نحو خمس عشرة سنة جعل محض التذكير بالأقانيم الثلاثة نوعا من المزاح الثقيل الذي يفتح باباً واسعا للتندر والتأسي والكوميديا السوداء، إذ لا يخلو تفصيل مما يبرهن على العكس تماما، ويدل على ابتلاء المجتمع بكل الأمراض الناتجة عن الفقر وشظف العيش، ونشوء ظواهر لم يكن يعرفها المجتمع الغزي المسلم والمحافظ، كالانتحار شنقاً أو حرقاً، وأحيانا مع قتل الأطفال بأيدي آباء يائسين.

الحصار ليس خانقاً ومشدداً إلى الدرجة التي تبرر انهيار الأقانيم – الذرائع التي بدأت على أساسها الحكاية

في محاولات التنصل من المسؤولية عن هذه المآلات، يقال إن الحصار كان وما يزال سببا، وهو بالفعل سبب قوي، لكن الحصار يتنوع، ويجري بتضامن أطراف قد تختلف في كل شيء، وتتفق على الحصار أو استغلال الحصار. وعلى الرغم من ذلك، فإن هذا الحصار ليس خانقاً ومشدداً إلى الدرجة التي تبرر انهيار الأقانيم – الذرائع التي بدأت على أساسها الحكاية.

سياقات الخنق والاستغلال وتربح الأوساط الحاكمة لم تستثن الأمر المتصل بالعبادة وأركان الدين. فقد نُشرت فاتورة تكاليف رحلات العُمرة للفلسطينيين في غزة. ومن خلال المفردات، نعلم أن سعر بطاقة السفر من القاهرة أو مدينة العريش إلى جدة يزيد ثلاثة أضعاف عن رحلات بثلاثة أضعاف المسافة. كذلك كانت الكلفة المعلنة من حدود غزة إلى أقرب مطار مصري بأربعة أو خمسة أضعاف مثيلتها للمسافرين العاديين، وكان يفترض العكس وهو تخفيضها مثلما يحدث في أسعار الأفواج والرحلات الجوية التي يسمونها “شارتر”.

لقد أصبح اقتناص أسعار زهيدة لرحلات سفر من هوايات الشبان الصغار في البلدان المفتوحة على الآفاق. وهؤلاء يمكن أن يجلبوا لمعتمري غزة أسعاراً تكشف حقيقة التربح والاتجار بالعبادة والمتعبدين. فمن يُعنى بتخفيض الكُلفة وعدم إرهاق الناس يمكنه جلب بطاقة سفر لكل معتمر، من القاهرة إلى جدة، بما لا يصل إلى مئة دولار، وربما يكون “القوي الأمين” فعل ذلك لكنه أعلن أن السعر 470 دولاراً. ولا اكتراث لحقيقة أن رحلة لمسافة أبعد، بين عاصمتين فاخرتين في أوروبا لن تصل إلى 150 دولاراً، ثم إن زبائن غزة على باب الله، منهم من ذهب لكي يودع ومنهم من ذهب لكي يتنفس ويتعبد، أو لكي يقول لمن جاؤوا من كل فج عميق محسوبكم قادم من غزة!

أما كلفة قطع المسافة من معبر رفح إلى المطار فقد زادت عن سعر الرحلة الجوية، وبلغت 520 دولارا، ولم تكن قبل محنة غزة تزيد عن ستين دولارا، يتبعها سماع عبارة “كل سنة وأنت طيب”، وذلك قبل زيادات رسوم خلقت لغزة حصراً!

بركات القوي الأمين، مكلفة وباهظة عندما تأخذ، ولا أثر لعطائها. فللحيته البحبوحة ورغد العيش والزيوت العطرية، وللناس الشقاء!

20