عبدالله المحرقي.. رسام وضع الإنسان في مركز عالمه الفني

ينظر الرسامون البحرينيون من كل الأجيال إليه بطريقة تضعه في مكان يفصله عن المكان الذي يحتله الرسامون الرواد الآخرون. لطالما أثار ذلك العزل فضولي ولم أفهمه.
يُقال لك “عبدالله المحرقي شيء آخر”. حين رأيت عددا من لوحاته وقرأت عن حياته وبحثت عن النقاط التي يتصل فيها فنه بحياته تأكدت من أن كل ما قيل كان يعبر عن الحقيقة. المحرقي هو رائد من نوع مختلف.
ترك الصحراء والبحر وراءه
بدأ من البيئة المحلية كما بدأ الآخرون، غير أنه لم يستغرق كثيرا من الوقت حتى فارقها ليجد الطريق أمامه مفتوحة في اتجاه المدارس الفنية العالمية التي كانت تعبر عن تحولات الرسم.
? فكرته عن الرسم تدور حول اعتباره نشاطا بصريا وذهنيا في الوقت نفسه عن المشاهد التقليدية الجاهزة. البحر والصحراء وما بينهما خط يابسة أخضر في جزيرة كان سكانها يعتاشون على استخراج اللؤلؤ في جو حكائي يعصف بالمغامرات
لقد أخذته فكرته عن الرسم باعتباره نشاطا بصريا وذهنيا في الوقت نفسه عن المشاهد التقليدية الجاهزة. البحر والصحراء وما بينهما خط يابسة أخضر في جزيرة كان سكانها يعتاشون على استخراج اللؤلؤ في جو حكائي يعصف بالمغامرات.
لقد ترك للآخرين رسم تلك المشاهد المثيرة جماليا واهتم بتحليل النفس البشرية متأثرا بأفكار وأشكال وأحلام السرياليين والتكعيبيين والرمزيين الذين حلم بأن يضيف إلى دفاترهم دفترا اسمه المنامة، الجزيرة التي ولد فيها وأحبها ولم يكتف بوصفها بل أراد أن يذهب بها إلى أحلامه ليضفي عليها الكثير من صفات الكائن البشري التي يمتزج من خلالها الخيالي بالواقعي كما لو أنهما الشيء نفسه. سيكون على رسامي البحرين من الأجيال اللاحقة أن ينظروا إلى المحرقي باعتباره فاتح الباب الذي يفضي إلى الفن العالمي بتحولات حداثته بالرغم من أن الرواد الآخرين قد حاولوا بنسب متفاوتة أن يستلهموا تلك التحولات في أعمالهم.
ميزة المحرقي تكمن في أن لوحاته جمعت بين البيئة المحلية في أكثر صورها اختزالا وعناصر التفكير والبنية والتصوير لدى رسامي المدارس الفنية الحديثة. لقد سعى لأن يرتفع بطريقته في النظر إلى المشهد الواقعي، وفي الوقت نفسه فإنه عمل على أن تكون طريقه إلى العالمية آمنة ومليئة بالمفاجآت البصرية.
لا تزال رسومه مثيرة مثل سؤال لم يجب عليه أحد. فهو ابن البحرين الحريص على أن يؤكد ذلك من خلال الرسم. ذلك ما لا ينكره أحد. غير أنه في الوقت نفسه ابن الرسم الحديث الذي قرر أن يكون رسوله. ذلك سبب مقنع لإعجاب رسامين من أجيال مختلفة به.
رسام صاحب موضوع
ولد المحرقي عام 1939 في المنامة. درس الرسم في مصر غير أنه انتقل إلى دمشق لإكمال دراسته هناك وحصل عام 1966 على شهادة في الفنون الزخرفية. أقام أول معارضه الشخصية في المنامة ومن ثم في لندن. بعده أقام أكثر من عشرين معرضا شخصياً في الكويت وأبوظبي ومسقط ولندن إضافة إلى المنامة. صمم معظم الطوابع البريدية لدولة البحرين. وفي عام 1997 فاز بتصميم شعار دولة الإمارات العربية المتحدة. بعدها حصل على الميدالية الذهبية لصالون الفنانين الفرنسيين.
التحق بصحيفة “أخبار الخليج” للعمل رساما للكاريكاتير. وهو العمل الذي مارسه أيضا في صحيفة البيان الإماراتية لمدة 14 سنة. وصف نفسه ذات مرة بأنه رسام صاحب موضوع. وهو ما كان عليه يوم بدأ برسم الأسواق وصيادي اللؤلؤ والألعاب والأزياء الشعبية وطقوس الزواج والحرفيين وتجمعات الباعة. غير أنه سرعان ما غادر تلك المساحة حين اهتدى إلى الطابع الأسطوري الذي تنطوي عليه تقاليد العيش في البحرين.
في مرحلة متقدمة صار الموضوع بالنسبة إليه قاسما مشتركا بين العام والخاص، الذات والعالم الخارجي.
الانتقال من الخارج إلى الداخل
يقول المحرقي “عندما أرسم عن العراق وفلسطين مثلا أشعر أن شيئا من آلامي وأحزاني وتوتري ينسحب من داخلي”. في تلك المرحلة انتقل من الوصف المحايد إلى التعبير عن المعاناة المشتركة. كان ذلك الانتقال على درجة كبيرة من الأهمية لا على مستوى الإحاطة بالموضوعات بل على مستوى التنويع في الأساليب. ذلك ما صنع للمحرقي شخصيته الفنية المتميزة.
لقد بدأ المحرقي يومها مرحلة جديدة في التفكير في الفن. في الظاهر بدا فنه كما لو أنه يغادر محليته إلى عالم أكثر انفتاحا على الوقائع المعاصرة وهي فكرة صحيحة، غير أن الصحيح أيضا أن ذلك الفن شجع المحرقي على أن يستخرج من أعماق لاوعيه شغفه بالمدارس الفنية الحديثة وهو ما قربه من رسامين عالميين سبق له وأن أحب أعمالهم.
وهنا يمكن القول إن الأشكال استدعت موضوعاتها المناسبة لها. وهو ما لاءم مزاج الرسام ورغبته في أن يخوض تجربة التحليل النفسي عن طريق الرسم. لم تكن طريقه شائكة يومها. فبعد أن استنفد غايته من رسم الموضوعات المحلية وجد أن رغبته في تحليل الإنسان من الداخل تبعا للأساليب السريالية والتكعيبية والرمزية متاحة التحقق.
كان رسامو منطقة الخليج مولعين بتصوير تفاصيل الحياة التقليدية التي يعرفون أنها في طريقها إلى الزوال. وهو ما حدث فعلا. أما استعادة تلك الحياة فإنها تتم اليوم لغايات سياحية لا تنطوي على الحقيقة.
لم يلتفت أحد منهم إلى الإنسان باعتباره جوهر البحث الجمالي، بل كان الإنسان واحدا من مفردات المشهد. وحده المحرقي اعتبر الإنسان مركز الرؤية والمجال الحيوي الذي تتحرك فيه الأفكار.
لم يكن الإنسان بالنسبة إليه مجرد صورة بل هو فكرة. تلك الفكرة التي صارت مهبط وحيه وموقع إلهامه سيستخرج منها الفنان أساطيره الشخصية. هناك تلتقي حكاياته الواقعية والخيالية على حد سواء لتشكل عالمه الذي يمتلئ بالألغاز، كلما تصالح المشاهد مع الموضوع فاجأته اللوحة بأفكار جديدة.
لم تكتمل لوحاته
? معظم الطوابع البريدية التي أصدرتها دولة البحرين صممها المحرقي مبكرا، وفي عام 1997 فاز بتصميم شعار دولة الإمارات العربية المتحدة
في مرحلة الريادة التزم المحرقي الحرفة التي قدم من خلالها البحرين التي ستذهب إلى الماضي. أسواقها ونساؤها والعادات والتقاليد الشعبية والأبنية التراثية والبحر وسفنه وغواصو البحث عن اللؤلؤ لكنه لم يستغرق في تلك المرحلة طويلا. لقد سحره الإنسان. ولكنه لم يصوره واقعيا بل ذهب عميقا إلى أحلامه وأفكاره الخفية فصار يلتقط الألغاز التي تنطوي عليها حكاياته.
لذلك لا ينجز المحرقي لوحاته بيسر. يقول “أنا أتعب في اللوحة كثيرا. أعمل اسكتش أولا وثانيا وثالثا ورابعا. عشرات من الاسكتشات تسبق عملي وكل تفصيل فيه مخطط له. أضيف أشياء كثيرة أثناء الرسم وأظل أضيف حتى بعد عرض العمل في المعرض. فاللوحة عندي متحركة ولا تنتهي وأشعر أن لوحاتي التي رسمتها منذ 40 سنة ما زالت ناقصة ولم تكتمل”، أيصل القلق بالفنان إلى تلك الدرجة؟
“لم تكتمل لوحاته” بمعنى أنه يفكر في أنها مشروع ناقص. ذلك ما يعترف به. ولو قُدر له أن يستعيد لوحاته القديمة لأعاد رسمها أو لأضاف إليها شيئا ما. ذلك رسام لا يمجد ماضيه بل يراه جزءا من مستقبله. سيكون ماضيه قادما من المستقبل. لا يأسف لأنه رسم لوحاته ولكنه يود لو استعادها لكانت أفضل كما يعتقد.
الرغبة وحدها تكفي. فنان من نوع عبدالله المحرقي يتحدى نفسه وماضيه وفنه ليستحضر فكرته عن عالمه الذي يتسع باستمرار. سيكون عليه أن يرى لوحاته كما لو أن أحدا آخر رسمها. بحرينه التي رسمها تغيرت وهو تغير.

◙ فنان من نوع عبدالله المحرقي يتحدى نفسه وماضيه وفنه ليستحضر فكرته عن عالمه الذي يتسع باستمرار