عدد الأخبار لا جودتها هاجس المواقع الإلكترونية في مصر

تشهد الصحافة الإلكترونية في مصر ظاهرة غريبة من نوعها باشتراط الكثير من المواقع الإخبارية على الصحافيين تحقيق الـTARGET أو المستهدف بالوصول إلى عدد معين يوميا لا يقل عن عشرة أخبار كي يحصل المحرر على راتبه كاملا في نهاية الشهر، مع إمكانية صرف مكافأة مالية لمن يتجاوز عدد قراءات أخباره رقما بعينه أو تحظى كتاباته بانتشار واسع عبر منصات التواصل الاجتماعي.
القاهرة- لم تعد معظم الصحف الإلكترونية تتنافس في الأخبار والموضوعات الجادة أو التي تلامس احتياجات الجمهور وترد على استفساراته مثل الكتابات التوعوية أو المعلوماتية والخدمية، بل تنحصر المنافسة في ضخ أكبر عدد ممكن من الأخبار في اليوم الواحد، بغض النظر عن جودة المحتوى المقدم للجمهور.
كان محمد (س)، وهو صحافي يعمل بموقع إلكتروني في مؤسسة صحافية حكومية، من أكفأ الصحافيين في تغطية ملف الصحة وكثيرا ما ينفرد بموضوعات وأخبار حصرية لموقع صحيفته الإلكتروني ليجعله في صدارة المواقع التي تقوم بتغطية هذا القطاع الحيوي، لكنه صار محبطا بعدما أبلغه رئيسه المباشر بأن التفرد الخبري لا يُغني عن التارجت.
تعامل الصحافي مع كلام رئيسه على أنه مزحة ولم يحقق المطلوب منه يوميا من حيث عدد الأخبار المطلوب نشرها في قطاع الصحة، وهي عشرة أخبار، حتى لو كانت شبه متشابهة، فالمهم أن ينشر الأخبار العشرة، وكان تركيزه كيف يكون موقعه الإخباري متنوعا ومتفردا على منافسيه في ملف الصحة، حتى فوجئ مع نهاية الشهر بمعاقبته بخصم جزء من راتبه.
وقال لـ”العرب” إنه قرر عدم القيام بأي جهد طالما أن العبرة في النهاية بالكم وليس بالمضمون الخبري الذي يقدمه، وصار أقرب إلى موظف يحقق التارجت المطلوب منه يوميا ليحصل على راتبه كاملا، ورغم أنه لم يتعود على أن يتعامل مع مهنة الصحافة كموظف، إلا أنه وجد نفسه يُعاقب على ذلك لمجرد أنه تمسك بأن يكون صحافيا يمارس المهنة وفقا لأصولها المعروفة.
وصارت غالبية الصحف الإلكترونية غير منتجة لأيّ من الأخبار الجديدة مع تسلل اليأس للصحافيين بأنهم مهما اجتهدوا وبحثوا عن التنوع لن يتم تعويضهم أو إعفاءهم من عبء تحقيق التارجت اليومي، وبات الشغل الشاغل لكل منهم كيف يقوم بتوفير الأخبار المطلوبة منه كل يوم، ولا يستيقظ أيّ منهم ليبحث عن الجديد في القطاع الذي يقوم بتغطيته بل كيف يعيد إنتاج أخبار قديمة.

جلال نصار: إرهاق الصحافي في صناعة محتوى سطحي أو قديم يزرع داخله عدم الاهتمام بالمهنية
وتقوم هذه الفكرة على مبدأ تغيير صيغة الخبر مع بقاء نفس المضمون، فالمهم أن يظهر للقارئ في صورة جديدة مع أن المعلومات التي يقدمها في هذا المحتوى الخبري نُشرت من قبل في صحيفته الإلكترونية، وفي كل مرة يقوم بإجراء تعديل عليها، أو تغيير أماكن الفقرات التي يتضمنها الخبر مع تلاعب بسيط في العنوان ثم يعيد نشره.
وكان المسؤولون في أيّ صحيفة يسألون المحرر عن كل تصريح مكتوب في الخبر متى قيل، وفي أي مناسبة، وهل تصريحات خاصة أم جاءت في مؤتمر صحافي، كنوع من التدقيق لتجنب نشر تصريحات مزيفة أو قديمة لتحقيق أكبر قدر من المصداقية مع القارئ، واليوم اختفت هذه المشاهد وحل مكانها استسهال نشر نفس المعلومات في قوالب مختلفة، عبارة عن تجميع لكلام قُتل بحثا.
ومن الصعب على القراء اكتشاف التلاعب في المحتوى المقدم في أغلب المواقع الإخبارية لأنه شبه ثابت ولا يتغير، كل ما في الأمر أنه يُنشر في كل مرة بطريقة مختلفة نسبيا، ما انعكس على معدل زيارات القراء للصحف الإلكترونية.
ورأى جلال نصار الخبير الإعلامي ورئيس تحرير صحيفة وموقع الأهرام ويكلي السابق أن تحول المنافسة بين الصحف الإلكترونية من التنوع في المحتوى وإعلاء المصداقية إلى البحث عن الكم تسبب في اهتزاز مصداقية ومهنية الإعلام الرقمي، لأن الجمهور أكثر ذكاء وفهما لما يحدث ويستطيع بسهولة تقييم المحتوى المقدم إليه.
وأكد لـ”العرب” أن إرهاق الصحافي في صناعة محتوى سطحي أو قديم يزرع داخله عدم الاهتمام بالمهنية أو الاجتهاد ليكون مختلفا ومتفوقا عن منافسيه وعندما يكون التقييم منصبا على عدد الموضوعات التي يقدمها للصحيفة دون إرهاق نفسه عناء البحث عن الجديد ستكون دوافعه نحو تطوير مهاراته منعدمة، لأن المهني يتساوى مع المبتدئ، وصار الصحافي المبتكر هو من يعيد إنتاج المحتوى ليبدو كأنه جديد وجذاب.
ولأن أغلب القطاعات الحكومية أصبحت في حالة قطيعة نسبية مع الإعلام ويصعب على الصحافيين الوصول إلى معلومات جديدة في الملفات المسؤولين عن تغطيتها، يستسهلون فكرة تحقيق التارجت من خلال البيانات الرسمية الصادرة عن كل مؤسسة، إذ يقوم كل منهم بتقطيع البيان الواحد لخمسة أخبار أو أكثر، وكل خبر لا تزيد كلماته عن خمسين كلمة، فالمهم أن يحتمل مضمونه استخراج عنوان من الكلام المكتوب.
وتؤمن سالي أشرف، وهو اسم مستعار لصحافية مسؤولة عن تغطية ملف التعليم بصحيفة إلكترونية خاصة، بأن ما تفعله من توزيع البيان الرسمي الواحد على أكثر من خبر لا يتناسب مع الحد الأدنى للمعايير المهنية، لكنها مضطرة لذلك، فغالبية الصحف لا تهتم بأصول المهنة ولا يعنيها سوى ضخ أكبر عدد من الأخبار ولو كانت بلا قيمة، وهي مضطرة للتجاوب مع هذه البيئة غير الصحية للعمل الصحافي.
تبتسم وتقول “البيان الرسمي الواحد أقوم بتقطيعه لأكثر من خبر، وفي النهاية أجمع نفس الأخبار لذات البيان وأعيد نشرها في تقرير مجمع مع نهاية اليوم، ولا مانع من نشر تقرير آخر لذات المعلومة في صورة معلومات قصيرة أقدمها للقارئ على هيئة انفوغراف، وفي نهاية الأسبوع أعيد نشر نفس أخبار البيان بطريقة مختلفة تحت عنوان أهم الأنشطة والقرارات التعليمية هذا الأسبوع”. وأضافت “للأسف أصبح البعض من الصحافيين يتفننون في تغيير صورة وشكل الخبر، لا البحث عن مضامين جديدة ومفيدة للقارئ”.
تفرد صحيفة إلكترونية بخبر مختلف بات حدثا فريدا من نوعه بعدما فقد الكثير من الصحافيين حماسهم المهني
ويترتب على هذا الواقع انتشار صحافة الإثارة والجريمة وانتهاك الخصوصيات، فصحافي الحوادث مطالب بتحقيق التارجت ويركز اهتمامه على الوصول للعدد المطلوب منه يوميا بنشر كل حادثة تقع في طريقه أو يسمع عنها أو يجري التحقيق فيها من قبل الشرطة والنيابة العامة أو حتى يعيد نشر نفس الجريمة بتفاصيل مختلفة على مدار اليوم، على الرغم من أن الأعراف المهنية المنظمة للعمل الصحافي في مصر حذرت من التركيز على الجرائم بخفض معدلات تصديرها للجمهور.
وبات تفرد أي صحيفة إلكترونية بخبر مختلف أو محتوى نوعي حدثا فريدا من نوعه بعدما فقد الكثير من الصحافيين حماسهم المهني ويساعدهم رؤساؤهم على ذلك، وغاب عن المشهد التناول العميق للقضايا المطروحة على الساحة لتصبح النتيجة الطبيعية تحول شبكات التواصل الاجتماعي لمصدر رئيسي للمعلومة وتنافس المواقع الإخبارية على جذب الجمهور الباحث عن الجديد، في ظل تركيز معظم الصحف اهتمامها على إعادة نشر القديم في ثوب جديد.