القمني ومقاهي القنوات

ما أن لفظ سيد القمني أنفاسه الأخيرة، حتى اشتعل السجال حول مآلاته في دار الأبدية، التي قيل إنه ينكرها. فمن يرونه كافرا، عادوا إلى محرك البحث “غوغل” لاستخراج الفيديوهات التي يتحدث فيها بكل ما يمرق على الدين أو على ثوابت التفسير وصحيح الأحاديث. ومن يرونه مجتهدا ثابروا إلى استحضار براهينهم لكي يثبتوا أن الرجل إنما كان يبحث في التاريخ الإسلامي من وجهة نظر ماركسية، واتسمت أفكاره بالجرأة في التصدي للفكر الأصولي، الملهم لجماعات العنف الإسلاموي. والقمني نفسه قال ذات مرة في لقاء مع قناة “الجزيرة” إنه يعتنق فكر المعتزلة.
في الحقيقة، كان السجال نفسه، الذي أشعله القمني منذ ظهور كتبه الأولى، في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي؛ هو الذي فاقم لغته التي تحولت إلى نبرة صارخة وكيدية، وشديدة الحدة ويشوبها الاستهزاء بالدين، كأنما أراد منها استفزاز دائرة أوسع من المؤمنين، نكاية بمن أثقلوا عليه في الاتهام بالردة والكفر. وخطأ الرجل أنه توسع في الشروحات لطالبي التسلية الذين يريدون التضاحك على ما تيسر لهم من محمولات الدين. علما أنه في بداياته، كان يقدم رؤى لقصة الإسراء والمعراج، ونزول الملائكة في بدر، باعتبارها ذات معان رمزية، وذلك نوع من الرؤى مطروق في تاريخ الفلسفة الإسلامية، وقد رأى أصحابه وجوب التمييز بين الرمز والواقعية التاريخية المادية.
☚ كلام سيد القمني لم ولن يؤسس لشيء، لأن الرجل زج بنفسه في أتون لا نجاة منه، فتصدى لظاهرة إيمانية وروحية بشروح فيزيائية
حيثيات السجال حول سيد القمني، خرجت كلها من محفوظات أرشيفات القنوات التلفزيونية، سواء تلك التي نذرت معظم برامجها لنقد الخطاب الديني (إبراهيم عيسى مثالا) أو تلك التي تنطلق في رسالتها الإعلامية من فرضيات المشروع الإسلامي كـ”الجزيرة”. فلم يغب سيد القمني عن القنوات، وكأن هذه القنوات أصبحت المعادل الموضوعي لمقاهي باريس في الفترات من بداية القرن الثامن عشر إلى نهاية فترة القنوط بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين. ففي تلك الحقب، كانت الأفكار كلها تُناقش في أحضان المقاهي وبعيدا عن محتشدات الناس، وتتحول إلى فضاء للتثاقف والتسلية والحميمية، ولمساعدة شركاء الثرثرة في طرد الإحساس بالعزلة، وتلبية الحاجة إلى الاستئناس بآخرين كانوا على قناعة بأن لا حياة في الدار الآخرة!
وبغياب المقاهي التي يتعاطى روادها شتى الأفكار؛ تولت وظيفتها بعض قنوات التلفزة، لاسيما عندما أصبحت المقاهي نفسها تعتاش من رواد متابعة مباريات كرة القدم. فلم يكن هناك بث تلفزيوني عندما كان المقهى الباريسي وأمثاله في الشرق، يؤدي وظيفته الفكرية والثقافية ويحتضن متابعي البورصة، ما جعل مونتيسكيو يقول من قلب مقهى “البروكوب” الباريسي “لو كنت حاكما لهذا البلد لأغلقت المقاهي التي يرتادها أناس يقومون بإشعال الأدمغة”.
كلام سيد القمني لم ولن يؤسس لشيء، لأن الرجل زج بنفسه في أتون لا نجاة منه، فتصدى لظاهرة إيمانية وروحية بشروح فيزيائية. ولم يكن سباقا إلى ذكاء لم يسبقه فيه أحد. فعلى مر التاريخ كان هناك من يقولون ما قاله القمني، إن أرادوا التجاوز عن المسلمات الإيمانية التي تقوم عليها الأديان. وكان من الخطأ، أن يذهب به ذعره من الإرهاب الإسلاموي، إلى مناقشة الحروب في صدر الإسلام، كأنما هي من الجنس نفسه، بينما لم يُعرف عن الإرهابيين في زمننا المعرفة بالدين ولم تعرف لهم تقوى ولا التزاما بحدود الشرع في القتل وإيقاع الأذى. لذا انزلق القمني إلى مهاجمة الفقهاء المستنيرين وإلى اتهام “الأزهر” بالإرهاب، ما فتح عليه أبواب الشماتة في موته.