أحمد نوار.. المقاتل في تجلياته

التشكيلي المصري يرسم يومياته قابضا على مصائر متعددة.
الأحد 2022/02/13
رسام عقلاني

غالبا ما يمكن تمييز رسوم الرسامين الذين درسوا فن الحفر الطباعي (غرافيك) عن رسوم سواهم من الرسامين. لا بد من شيء من الهندسة حتى لو تم إخفاؤها. كما أن للخط حضورا لافتا حتى تبدو اللوحة كما لو أنها أقيمت على أساس خطي. غالبا ما يولع الحفارون بإقامة سطوح وهمية متباينة على سطوح لوحاتهم.

لم يخرج أحمد نوار عن تلك الشروط التقنية. تجريدي لم يتخل عن مصادره الطبيعية وإن كشف عن براعة في الوصول بتلك المصادر إلى ينابيعها الصافية. هندسية أشكاله تضفي نوعا من البرود الذي لا يتناقض مع انفجارات تعبيرية تقع هنا وهناك. ملوّن لا يضع اللون في مقدمة اعتباراته بالرغم من أنه لا يسقط اللون من حساباته. هناك توازن بين اللون والخط يرعاه الفنان بحساسية مَن يسعى إلى تقطير المشهد الذي يبدو كما لو أنه مزيج من قوتي البصر والحلم.

يحلم نوار بمشاهده بعد أن يراها وقبل أن يرسمها. وهو بذلك يستفيد من طاقة الحلم في تحويل مشاهده من كيانات مرئية إلى دفقات من التجهيزات الحلمية.

عقلاني بيدين حالمتين

في عناوين معارضه ما يمكن أن يشير إلى استرساله مع طريقة خاصة في النظر إلى المسافة التي تفصل بين المرئيات والنظر إليها باعتبارها شواهد تعبيرية تغص بالدلالات الأدبية بالرغم من أن كل شيء على سطح لوحته ينتسب إلى المعالجة البصرية الخالصة. “فلسطين 54 سنة من الاحتلال”، “الشهيد”، “العبور”، “روح الحضارة” و”وجوه الفيوم”.

ç ميزة نوار عن سواه من الرسامين المصريين أنه لم يملأ لوحته برموز تراثية في محاولة منه للبحث عن الهوية الجاهزة، بل كانت هويته تتشكل من مجموعة العلاقات الجمالية التي يبتكرها خيال يديه الحالمتين

لم يعلق نوار في تلك المسافة بل وضعها في خدمة بحثه عن النقاط الحسية العميقة التي تقع تحت رقابة عقلانية. لذلك يمكن القول إنه لا ينتمي إلى رهط الفنانين الذين يقدمون اللعب على التفكير. وكما أتوقع فإن نوار يرى لوحته قبل أن يرسمها. وليس القصد هنا أنه يتخيلها.

ميزة نوار عن سواه من الرسامين المصريين أنه لم يملأ لوحته برموز تراثية في محاولة منه للبحث عن الهوية الجاهزة، بل كانت هويته تتشكل من مجموعة العلاقات الجمالية التي يبتكرها خيال يديه الحالمتين.

ولد نوار عام 1945 في محافظة الغربية بمصر. درس فن الحفر الطباعي في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة وتخرج عام 1967. من أكاديمية سان فرناندو بمدريد حصل على دبلوم في الغرافيك ودبلوم في التصوير الجداري وكذلك على الأستاذية المعادلة للدكتوراه.

عمل في تدريس فن الحفر الطباعي في جامعة حلوان وجامعة المنيا التي أسس فيها كلية الفنون الجميلة وكان عميدا لها. أشرف على صندوق إنقاذ آثار النوبة. وترأس قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة، ثم مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة حتى عام 2008.

أقام نوار أول معارضه الشخصية عام 1965 بإتيليه القاهرة. بعده أقام أكثر من ستين معرضا شخصيا في مدن عالمية مختلفة منها. بغداد، الكويت، مدريد، مايوركا، ستوكهولم، أوسلو، فرجينيا، هافانا، الدوحة، أبوظبي إضافة إلى القاهرة ومدن مصرية أخرى.

ينتمي إلى فئة إيجابية من المثقفين الذين لم يكتفوا بحمل رسالة التنوير نظريا بل ذهبوا بها إلى حدود الممارسة الواقعية حيث قام بترأس عدد من المؤسسات التي أحدثت تحولا وطنيا كبيرا في معالجة أمور حساسة وعميقة الأثر كالآثار والثقافة الشعبية والفنون التشكيلية وهو ما لم يشكّل عائقا بينه وبين ممارسة الرسم وهو جوهر حياته الأساس الذي يجد من خلاله معنى لوجوده الشخصي.

حين سُئل نوار عن معرضه ”العبور“ وإذا ما كان ذلك المعرض يعبّر عن حرب الاستنزاف وانتصار أكتوبر أجاب “لا يعبر المعرض عن موقعة حربية، بل هو محاولة لاكتشاف الطاقة الداخلية وروح التحدي”.

تلك جملة أساسية للتعريف بفن نوار. فهو لا يمثل استجابة للخارج في جدله مع الداخل بقدر ما هو محاولة للكشف عن عناصر القوة الداخلية للبشر كما للأشياء من حولهم.

الرسم ومرآة السيرة الذاتية

"من الداخل إلى الخارج" ذلك هو المسار الذي أقام عليه الفنان معادلته في جدل العلاقة بين ما يُعاش وما يُرى
◘ "من الداخل إلى الخارج" ذلك هو المسار الذي أقام عليه الفنان معادلته في جدل العلاقة بين ما يُعاش وما يُرى 

لا يقع فن نوار في منطقة وسطى بين الحدث والانفعال به بل يميل إلى تفكيك الانفعال واستحضار مفرداته التشكيلية بطريقة تقترب من التركيب. فنوار يبني لوحته ولا يترك مجالا للصدفة. حريته الحقيقة تكمن في طريقة تماهيه مع الانفعال الذي هو ليس ابن لحظته.

استحضر في معرضه “العبور” الروح القتالية التي سكنته يوم كان جنديا وهو ما فعله حين استحضر روح الشهيد في معرضه الذي أقامه عام 2014.

“من الداخل إلى الخارج” ذلك هو المسار الذي أقام عليه الفنان معادلته في جدل العلاقة بين ما يُعاش وما يُرى سواء في الواقع أو في الفن. يرسم نوار بروح قتالية تدافع عن القيم الجمالية التي ينطوي عليها الوضع البشري في الأوقات العصيبة.

“نوار والحرب التي لا تنتهي” هو عنوان الكتاب الذي ألفه حسين يوسف طه. تمكن قراءة ذلك العنوان بطريقة مجازية. فتجربة نوار الفنية الغاصة بالتحولات الأسلوبية كانت ولا تزال عنوانا لروحه القتالية التي دافعت من خلال الرسم عن الإرادة. إرادة الفنان الممزوجة بإرادة الإنسان. فلو تتبعنا تلك التحولات الواضحة في انقلابيتها لاكتشفنا أنها كانت مرآة لسيرة الفنان كما لو أنه كان من خلالها يكتب يومياته لكن بطريقة انفعالية من غير أن يشوبها الارتجال أو الخضوع لمبدأ الصدفة.

ç فن نوار لا يقع في منطقة وسطى بين الحدث والانفعال به بل يميل إلى تفكيك الانفعال واستحضار مفرداته التشكيلية بطريقة تقترب من التركيب

لقد رسم نوار كما لو أنه يعيش داخل لوحاته. وسيكون عليه أن يقول دائما “هذا هو أنا. هناك أقيم دائما“. ولو قُيّض له أن يعزل مفرداته بعضها عن البعض الآخر لكانت تلك المفردات بمثابة سطور في دفتر يومياته. ولكن ذلك ما لا يرغب الرسامون في القيام به.

يستعرض طريقة تفكيره في الفن قبل أن يصدمنا بتحولاته الأسلوبية التي انتقل من خلالها من التعبير إلى التجريد الهندسي. إنه نموذج للفنان المفكر الذي يرعى أفكاره بخيال فني ويضبط مغامرته الفنية بمعايير فلسفية لا يتخللها أيّ نوع من الهذيان الغامض.

لا يزعم نوار أنه استلهم شعرية المجال البصري الذي صوره فهو يصور ذلك المجال الحيوي بحثا عن قوته البصرية. ما يراه بعد أن يدخله في مصفاته العقلية لن يكون صالحا للاستعمال إلا بعد أن يمزجه برؤياه التي هي مصدر كل تكوين يشكل الأساس المتين لبناء اللوحة.

ومن ذلك المنطلق يهذّب الفنان خطواته لا لتتطابق مع مزاجه الذي لا يتغير أثناء عملية الرسم وحسب بل وأيضا من أجل أن تكون رسالته واضحة بالنسبة إلى المتلقي. فهو من الفنانين الذين يفكرون بعمق في نوع العلاقة بين العمل الفني ومتلقيه وهو في كل الأحوال فنان مصائر. يهمه مصير اللوحة. ويهمه مصير الإنسان. ويهمه بين الاثنين مصير الحكاية التي لم يروها أحد.

بعد كل هذا سيُخيل للجميع أن نوار رسام عقلاني. ذلك حكم يقبل النقاش وهو قابل للتأويل والتفسير والمراجعة. ولكن الثابت أن الفنان الذي يرسم حياته بحساسية خالصة وبوعي فلسفي عميق كان حريصا على أن يبقى الجدل بين المتناقضات قائما من أجل أن تتسع الرؤية وتتعمق الأفكار.

 

9