بيليندا كانّون.. كاتبة فرنسية تؤسس لمفهوم التعجب والرغبة

يجمع الكثير من الكتاب بين الكتابة الإبداعية والفكرية، في مزج لعالمين وإن كانا يبدوان متنافرين فإنهما في الواقع على اتصال وثيق. وربما يميل المبدع الذي يجمع بين الفكر والأدب إلى هذا الأخير إن كان يريد التعبير بشيء من المشاعر وإلى الفكر إن كان يسعى لبلورة فكرة ما، ولعل التوحد بينهما يخلق نصوصا متكاملة، تحس وتفكر على غرار كتابات الفرنسية بيليندا كانّون.
بيليندا كانّون روائيّة ومفكّرة فرنسية، لأب من أصول صقلية وأم من كورسيكا، وُلِدَتْ في تونس سنة 1958. وعاشت طفولتها في مرسيليا تغمرها ذاكرة الحنين إلى تونس التي حملها والداها وجميع أفراد عائلتها، والتي صاغت خيالها المتوسّطي. حصل عملها “كتابة الرّغبة” سنة 2001 على جائزة الأكاديميّة الفرنسيّة للنّقد الأدبيّ، كما حصل كتابها “الشّعور بالاحتيال” على الجائزة الكبرى للنّقد الأدبيّ لجمعيّة الكتّاب سنة 2005.
مع نهايات العام الماضي أصدرت كتابين “كتاب الغروب” (منشورات الفيستمبوار، 130 صفحة)، و”مديح صغير للتّعانق” (منشورات غاليمار، سلسلة 2 يورو، 128 صفحة).
في حوارها مع “الجديد” تجيب الكاتبة عن عدد من الأسئلة التي تستكشف جوانب من عملها الفكري والأدبي. المؤثر أنها تبدو متعلقة بخصوصية كون عائلتها عاشت على امتداد ثلاثة أجيال في حيّ من تونس يُطلقُ عليه اسم صقلّيّة الصّغيرة، حيث ولدت الكاتبة نفسها. ونستشف من حوارها ذلك التقدير الخاص لفكرة الانتماء المتوسطي، بكل ما يفرضه ذلك ويشير إليه من دلالات استثنائية بالنسبة إلى كاتبة ومفكرة عنيت أعمالها بعالم النساء وكفاح المرأة من أجل المساواة الحقوقية والثقافية والاجتماعية، والسياسية، وبالصراع الفكري الدائر من حول جماعات وتيارات الحركة النسوية. وهي تتسلح بمنطق فكري يعبّر عن منظور لا يقبل بفكرة الصراع السلبي بين عالم النساء وعالم الرجال، بل لا يقبل بتكريس فكرة الحدود الشرسة بين العالمين، رغم الخصوصيات والاختلافات.
من هنا فإن كتابها “غواية بينيلوبي” إنما يطلق جملة من الرؤى والأفكار المعاكسة لأفكار التيارات النسوية المتطرفة، فهي تعتبر أن هذه التيارات إنما تهدد بتطرفها التاريخ التحرري للمرأة إذ تؤخر بنزوعها العدائي إنجاز العمل الخلاق للنساء نحو المساواة. وبالتالي فإن نقد الاتجاهات المتطرّفة ينطلق لديها من اعتقاد يرى أن ما يوحدنا كرجال ونساء هو كوننا بشرا يملكون الرغبة نفسها في الحرية والتآلف. أكثر من ذلك، فإن بيليندا تعتبر أن ” النّسويات اللّواتي لم يعدن يمثّلن الكونيّة، يخاطرن بالتّراجع عن العمل الذي أنجزته سابقاتهنّ”.
أخيرا، وفي ما يتصل بانتمائها الثقافي، فهي تعتبر نفسها ذات ثقافة فرنسية “كان حظّي أنّي ولدتُ في اللّغة الفرنسيّة”، إنما “كثيرا ما أقولُ إنّ جنسيّتي هي أن أكون (لغتي أنا)”.
الهجرات والمتوسط

بيليندا كانّون: إذا كان علي أن أكون كلمة سأكون الرغبة
الجديد: في نصّ لك تحت عنوان “المجيء من بحر”، تروين أصولك العائليّة بهذه الطّريقة “المتوسّط هو البحر الذي من خلاله تركوا صقليّة إلى تونس وبعد ذلك، بعد ثلاثة أجيال، تركوا تونس للرّحيل إلى فرنسا. يُمثّلُ دائما ركوب البحر الذّهاب إلى المجهول والجديد، هي طريقة لإعادة توزيع أوراق الوجود”.
هل يمكنك أن تفتحي لنا نافذة على ملامح من حياتك الأدبيّة على ضوء هذا النصّ وما تكتبين ويشبه هنا حكمة قديمة “كلّ من عانوا من وصمة العار المرتبطة بالأصول هم إخواني، وهو ما يُفسّرُ اهتمامي بالشّعور بالاحتيال ومعرفة عميقة بالموضوع”؟.
بيليندا كانّون: كانت عائلة والدي تعيش في صقلّيّة في نهاية القرن التّاسع عشر، في ظروف صعبة، دون أدنى شكّ، لأنّ البلاد كانت فقيرة جدّا. لا أعرف الكثير عن هذا الماضي باستثناء هذا: مثل كثيرين آخرين، قرّروا الاستقرار في تونس، المكان الأقرب إلى جزيرتهم… لذلك، عاشت عائلتي على امتداد ثلاثة أجيال في حيّ من تونس يُطلقُ عليه اسم صقلّيّة الصّغيرة، حيث أنا نفسي ولدتُ.
لكنني بالكاد قضّيتُ أكثر من عام ونصف عام: وهذا ليس كافيا لامتلاك الذّكريات. من ناحية أخرى، كانت طفولتي في مرسيليا تغمرها ذاكرة الحنين إلى الماضي لتونس التي حملها والداي وجميع أفراد عائلتي، والتي صاغت خيالي المتوسّطي. لذلك ليس لديّ اليوم إحساس قوي بالانتماء الجغرافيّ، وأشعرُ فقط أنّني أتيتُ من البحر، الذي عبره أجدادي عدة مرات. يجب أن ندرك أنّ كلّ أولئك الذين يأتون من تونس، وأعرف كثيرين من يهود وصقلّيّين وإيطاليين وفرنسيّين، احتفظوا بصورة تونس الفردوسيّة حتّى عندما كانوا، مثل عائلتي، فقراء جدا هناك.
هذا الوضع الاجتماعيّ، هذه الهجرات المستمرّة، خلقت في داخلي شعورا قويّا جدّا بالتّضامن تجاه كلّ من يعاني من صعوبة مرتبطة بأصله. أفهمهم بشكل وثيق. هذا بلا شكّ أحد الأسباب التي دفعتني لكتابة هذا الكتاب الفكريّ “الشّعور بالاحتيال”، الذي أحلّلُ فيه شعورا واسع الانتشار ولكنّه غالبا ما يظل سرّيا، ألا وهو عدم الشعور بالشّرعيّة في المكان الذي نوجد فيه، أيّا كان هذا المكان.
كان حظّي أنّي ولدتُ في اللّغة الفرنسيّة، من قبل والديّ (والدتي كورسيكيّة وأبي تلقّى تعليمه في المدرسة الثانويّة الفرنسية)، وبالتّالي أن أكون قادرة على الاستقرار بفرح ودعم قويّ في هذا البلد. كثيرا ما أقولُ إنّ جنسيّتي هي أن أكون “لغتي أنا”، لأنّني أعيشُ قبل كلّ شيء في منطقة فكريّة تتكون من لغة وثقافة مثل أيّ إنسان على وجه الأرض، بالمناسبة.
إبداع وحجاج
حياة الكاتبة أصبحت مكثفة بشكل كبير من خلال العمل الكتابي الذي دائما ما يكون رهانا محفوفا بالمخاطر
الجديد: تمارسين كتابة تُراوحُ بين الفكر والإبداع. كيف تعملين؟
بيليندا كانّون: تعتمدُ هذه المراوحة على المواضيع التي تهمّني في فترة معيّنة: أحيانا هي مواضيع تفكير وأحيانا هي مواضيع خيال إبداعيّ. عندما أردتُ التّفكير في التعجّب وفي القبلة أو في طبيعتنا بمثابة أشخاص يعيشون علاقات، عندما حاولت نقد بعض أنواع النّسويّة أو التقليديّة المعاصرة، فرض جنس المقال الأدبي نفسه عليّ. فالمقال عمل حجاج ومقترحات فكريّة، نوع من الحوار مع عصري كذلك.
لكن عندما أطرحُ أسئلة “لا أجوبة لها”، فقط لبسطها، كتلك المرتبطة بعنف العالم أو بقوّة الرّغبة في الحياة، تبدو لي الكتابة الإبداعيّة أكثر ملاءمة. في الوقت الحالي، على سبيل المثال، أكتبُ قصصا قصيرة عن الطفولة وعن هشاشتها…
الجديد:نجحت في كتابة كتب جميلة جدّا حسب الطلب، على الأقلّ في سلسلات تحتوي على فصول وأبواب مسطّرة من قبل النّاشر، مثل سلسلة “الميركور الصّغير” عند دار ماركور دي فرانس، أو “فوليو 2 يورو”، بالنّسبة إلى كتب “مديح صغير للرّغبة” (2013) و“مديح صغير للتّعانق” (2021). كيف تتمكّنين من الاحتفاظ بالحريّة التي تميزّك مع احترام قيود التّحرير؟
بيليندا كانّون: في الواقع، هي ليست أعمالا حسب الطّلب. “المدائح الصّغيرة” مقيّدة فقط بطولها (ليس أكثر من 15000 حرف) وهي تتّسم بنبرة شخصيّة إلى حدّ ما. علاوة على ذلك، تمكن ملاحظة كيف أنّ لكل منهما شكلا مختلفا تماما، يتمثّلُ “مديح صغير للرّغبة” في مجموعة من الأمثال الشّذريّة، أي 250 نصّا قصيرا لاستحضار الرّغبة الجسديّة، بينما أفكّر من خلال “مديح صغير للتّعانق” انطلاقا من رقصة التّانغو المأخوذة كاستعارة، في طبيعتنا ككائنات مرتبطة، وهو كتاب نجد فيه فصولا عاديّة.
الطّلب الحقيقيّ الوحيد يتعلّق بـ”مذاق القبلة”. في هذه المجموعة لمنشورات ميركيور دي فرانس، الهدف هو تقديم حوالي ثلاثين مقتطفا من نصوص حول موضوع معيّن والتّعليق عليها. ولكن مرة أخرى، يبقى كل شيء مفتوحا في الاختيار. كما أنّني كتبت قبلها بعام “القبلة ربّما” (2011)، كان الأمر سهلا وممتعا في نفس الوقت.

الجديد: كتبتِ في “المجيء من بحر”، “أتذكّرُ خيبة أملي عندما أدركتُ ذات يوم أنّ أوديسيوس في الأوديسة يحاول العودة إلى المنزل، فهل هذا كلّ شيء؟ الملحمة الأولى والأكثر استثنائيّة في ثقافتنا لا تروي سوى الرّغبة العنيدة في الرّجوع إلى غرفة نومه؟ الرّجوع إلى المنزل؟ لأنّ الأوديسة لا تروي الرغبة في المغامرة (حتّى لو واجه أوديسيوس جميع أنواع المغامرات، في طريق العودة)، أو الرّغبة في العبور، والرّغبة في تخطّي الحدود. لا، إنّها تكشف عن الحنين إلى إيثاكا، الرّغبة في الرّجوع إلى المنزل، الزّوجة، الابن، الوالد والكلب.” وأنتِ مؤلف كتاب “غواية بينيلوبي”. ماذا يمكنكُ أن تضيفي لتثمين هذا القول؟
بيليندا كانّون: أوه! هذه محض مصادفة! يَفْرِضُ أوديسيوس نفسه تحت قلمي وأنا بنتُ مهاجرين. ما الّذي نبحثُ عنه عندما نذهب إلى المغامرة؟ لكن أوديسيوس يريد فقط العودة إلى المنزل… هناك شيء مخيّب للآمال حول هذا الموضوع.
أمّا بالنسبة إلى بينيلوبي… فقد كتبتُ عن النّسويات لأنّني أهتمّ باتّجاهات معيّنة في النّسوية المعاصرة تُبرزُ ما الذي يفصل بيننا كرجال ونساء، وليس ما يوحّدنا: ألسنا جميعا وبنفس الطّريقة بشر لنا نفس الرّغبة في الحرّية والمساواة؟ بدا لي أنّ هذه الاتجاهات تُخاطرُ بتأخير العمل نحو المساواة، وللتعبير عن هذا الخوف، نشأت صورة بينيلوبي لتجعل الخاطبين يصبرون، وهم الذين يعتقدون أنّ أوديسيوس لن يعود أبدا وأنّه يجب عليها الزّواج من أحدهم، تعدهم بينيلوبي باختيار واحد في اليوم الذي تنتهي فيه من نسجها.
ومع ذلك، لتأجيل الموعد النّهائي، فإنها تتلف ليلا العمل المنجز أثناء النهار. وبالمثل، فإنّ النّسويات اللّواتي لم يعدن يمثّلن الكونيّة، يخاطرن بالتّراجع عن العمل الذي أنجزته سابقاتهنّ. لذلك عندما بحثتُ عن عنوان للكتاب، فرضت بينيلوبي نفسها. بيننا، ليس عنوانا جيّدا جدّا، على وجه التّحديد لأنه يطلب شرحا، لكنّني لم أجد عنوانا أفضل! في الإصدارات الأخيرة، رأيتُ أنّه من المناسب إضافة عنوان فرعيّ “مسار جديد للنّسويّة”.
مسألة الرغبة

الجديد: تستخدمين كلمات قويّة مثل “الرّغبة”، “التّعانق”، “الحبّ”. أين يبدأ الشّعر، الجمال، النّشوة في كلّ ذلك؟ ما سنسمّيه “الإغواء” وأين ينتهي؟ لا شكّ أنّك ترين ما نلمّحُ إليه: تختمين كتاب “غواية بينيلوبي” برسالة غير منشورة (إصدار سلسلة الجيب لعام 2019)، في ما يتعلّق بقضية وينشتاين، ويتساءلُ المرءُ إذا كان لشبكات التّواصل الاجتماعيّ دور في الأمر مع التّشويه والتّنكيل خارج إطار القانون وبصورة في الكثير من الأحيان ضاربة في العنف، ممّا يضرّ بالنضالات الحقيقيّة والقضايا النّسويّة. إلى جانب ذلك، ألا يمكن اعتبار قصّتك القصيرة “العلاقات السّامّة”، الّتي نُشرت في أعمدة صحيفة لوموند في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي، وصفا لهذا القول؟
بيليندا كانّون: الرّغبة هي أوّلا وقبل كلّ شيء الرّغبة في الحياة، والاستيقاظ في الصّباح، والتّرحيب باليوم القادم بفرح، إن أمكن. إنّها ما يحارب فينا القوة المظلمة للكآبة.
الحبّ هو تلك الرابطة – الأجمل – الّتي تجمعنا بالآخرين، أحيانا مع واحد (أو واحدة) على وجه الخصوص. إنّ الحبّ الممزوج بالرّغبة هو ما يجعلنا نختار كائنا من بين حشد إخواننا من بني البشر، شخص نعتزّ به ونرغب فيه أكثر من أيّ شخص آخر حتّى لو لم تكن هذه الرابطة دائما أبديّة.
كان هذا موضوع كتابي قبل الأخير “الاسم الجديد للحب” (2020). يجب أن أعترف أنّني مهتمّة باستمرار بحقيقة أنّنا مرتبطون، وأنّ تعريفنا وهويّتنا علائقيّة، أي مرتبطة بالتّفاعلات التي نعيشها بفعل ذلك. حتّى الإعجاب كما أفهمه شكل من أشكال العلاقة، فهو يربطنا بالطّبيعة والكون بقدر ما يربطنا بالكائنات الحيّة. ومن هنا جاء هذا الكتاب الأخير الذي أتحدّثُ فيه عن “التّعانق” (embrassement) وهو مصطلح لا يستخدم غالبا بالفرنسيّة ولكنّه يتحدث بوضوح عن القدرة على حسن الاستقبال والضّيافة التي تشكّلُ جمال الإنسان.
لذا في الواقع، أتتخيّلون النّسويّة الجديدة، التي تمّ تصوّرها فقط بطريقة عدوانيّة، مثل “حرب بين الجنسين”، تبدو مدمّرة بالنّسبة إليّ. لأنّنا نُحبّ الرّجال ونُريدُ أن نعيش معهم بسعادة، فنحن نسويّات، وليس لأننا نكرههم! بالإضافة إلى ذلك، شبكات التّواصل الاجتماعيّ، مثل اللغة، وفقا لإيسوب، هي أفضل وأسوأ الأشياء، ومقدرتها على الضّرر لا غبار عليها. يجبُ إذن مناهضتها بقوّة القانون، والمرور عبر المحاكم بدلا من عمليّات الإعدام خارج نطاق القانون في وسائل الإعلام.
خطوة جانبية

الجديد: آن ديفورمانتيل، التي توفّيت ببطولة في الحادي والعشرين من يوليو 2017، كانت صديقتك. هل يمكن أن تخبرينا عنها وعن علاقتك بها وعن أعمالها؟
بيليندا كانّون: كانت آن أوّلا وقبل كلّ شيء صديقة عزيزة جدّا بالنّسبة إليّ، شخصا، بغض النّظر عن المدّة التي أمضيناها دون رؤية بعضنا البعض، نستأنف معا الحديث من حيث توقّفنا، مثل راقصين يبدآن الرّقص مرة أخرى في تناغم لا مثيل له.
كانت تجمعنا الكثير من الآراء حول الرّغبة والسّعادة، ولهذا أصبحت ناشرتي. بعد أحد الحوارات العديدة التي أجريناها، طلبت مني التوسّع في ما أفكر فيه بشأن الرّغبة، لسلسلة فكريّة كانت تديرها. تلك كانت ولادة “كتابة الرّغبة”. قبل ذلك، لم أفكّر مطلقا في كتابة المقالات الفكريّة (باستثناء الأكاديميّة منها، وهو أمر مختلف تماما). لذا فقد كتبت كتبي الفكريّة الأربعة الأولى بفضلها ومن أجلها.
كانت تعجبني طريقة تفكيرها لأنّها كانت تتميّز دائما بما سأسمّيه خطوة جانبيّة، أي بالابتعاد عن الأفكار العاديّة. كانت “تُزحزحُ” المفاهيم والمصطلحات. ودائما انطلاقا من تجربة معيشيّة، تجربة خاصّة بها أو بمرضاها، والتي في رأيي تعطي الكثير من القيمة لفكرها، إنّها ليست مجرّدة.
الجديد: إذا كان عليك أن تبدئي من جديد، فما هي الخيارات التي ستتّخذين؟ إذا كان عليكِ أن تتجسّدي في كلمة، في شجرة، في حيوان، فماذا ستكونين في كلّ مرّة؟ أخيرا، إذا كان لا بدّ من ترجمة نص واحد لك إلى لغات أخرى، إلى العربيّة على سبيل المثال، فما سيكون ولماذا؟
بيليندا كانّون: إذا اضطررتُ إلى البدء من جديد، فلن أغيّر أيّ شيء بشأن اختياراتي السّابقة. أحبُّ حياتي، فلقد أصبحت مكثّفة من خلال العمل الكتابيّ الذي دائما ما يكون رهانا محفوفا بالمخاطر، من خلال الأصدقاء والأحبّاء الذين يشكّلون أساس كل الوجود، من خلال فرحة الوجود في العالم على الرغم من عنفه ومن كونه غالبا مجنونا.
ذا كان عليّ أن أكون كلمة، سأكون الرّغبة؛ إذا كنت شجرة، فسأكون شجرة زان بأغصانها الجميلة المرنة التي تطفو في الهواء، وأوراقها المزجّجة والمدبّبة الّتي أحيانًا ما تكون أرجوانية جميلة؛ إذا كنت حيوانًا… آه… فسأكون ربّما قطّة تكون حرّة ومسالمة طالما لم يزعجها أحد.
لم يُترجم أحد كتبي بعد إلى أي لغة، وأنا آسف لذلك لأنّه يستكشف تجربة إنسانيّة عالميّة: التعجّب. أحاولُ أن أصف وأفكّر في شروط إمكانيّة ظهور شكل التعجّب الّذي أشير إليه أحيانًا على أنه “متواضع”. متواضع، ليس لأنّه ضعيف، ولكن لأنّه يمكن أن يولد أمام عالم متواضع وعاديّ. في بعض الأحيان، سيكون طائرًا يغنّي، أو ضوءا على سياج، أو سماء متنوّعة أو ابتسامة ودّية. لا داعي للذّهاب بعيدًا والعثور على “عجائب” مبهرة، عروض فاخرة، كلاّ، عليك فقط أن تفتح عينيك على مصراعيها وتكون في حالة يقظة شعريّة، الأمر الذي يتطلّب البطء والانتباه، العطف تجاه العالم.
ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية
قص بِيلِينْدَا كَانُّونْ
علاقات سامّة
– أنا سعيدة لأنّك أتيتِ، يا صوفي. تناولي مشروبا.
– لا شكرا. لن أتسكّع. – لماذا تبدين محرجة جدّا؟
– أخشى أن يراني الآخرون. – وماذا في ذلك؟ – لا أرغبُ في ذلك. إذن، ماذا تريدين أن تقولي لي؟
– أنظري، بالأمس وجدتُ هذه الورقة معلّقة على بابي “هذا المنزل محروس”. من وضعها؟ هل تعرفين؟ – لا لا. ألا يوجد خطأ؟
– لكنّك تعلمين أنّ بعض الطّلاّب قرّروا مقاطعة دروسي، أليس كذلك؟
– اسمعي، لا أستطيعُ البقاء. أنا، أنا أحبّكُ، لكنّكِ… لكنّكِ يجبُ أن تُحَاوَلِي التّكيّف… نحن، نَبْذُلُ جُهُودا، لكنّك لا تفعلين الكثير…أعلم أنّك من جيل آخر، فهذا ليس خطأك. لكن هناك من هو خائفٌ. وداعا سيّدتي.
– انتظري! طارت الفتاة بعيدا مثل حجل مذعور. المقهى فارغ. اختارته لأنّها لا تسمع موسيقى هناك وهو بعيد عن الجامعة. النّادل يمسحُ بلا كلل منضدة الحانة. عدّة مرّات تُبْعِدُ خصلة شعر تقع أمام عينيها، تفتحُ كتابا ولكن لا رأس للقراءة لديها. تُواصلُ شمس الشتاء الإشراق على طاولتها. تمرُّ ساعةٌ. على أيّ حال، يُقْلِقُهَا تواجدها بمفردها في المنزل.
– ها أنذا يا أستاذة، لقد جئت.
– لطيف منك أنّك قبلت موعدي، ستيفاني.
– نعم.
– شكرا لك.
– نعم.
– هل لديك شيء لتخبريني به؟
-…
– أنت لا تريدين إخباري بشيء؟
– لماذا طلبتِ منّي الحضور؟
– لأنّي أودّ منك أن تشرحي لي. ولأنّي خائفة.
– أَفْهَمُكِ.
– ماذا تفهمين؟ هل عليّ أن أخاف؟
– صادما كان الدّرس الأخير عن ال… تلك الرّواية… ما أسمها؟ “العلاقات السّامّة”.
– “العلاقات الخطرة”. ما الصّادم فيه؟
– الرّئيسة، كما تقولين، يَهْزَأُ منها ذلك المريض النّفسيّ، دَالْمُونْ…
– فَالْمُونْ.
– ثمّ يغتصبُ تلك المرأة الشابّة، وأنت، أنت لم تقولي أيّ شيء.
– يبدو لي أنّي قلت أشياء كثيرة…
– لكنّكِ لم تقولي إنّها ثقافة الاغتصاب.
– على العكس، يستنكر لاَكْلُو اضطهاد المرأة. وهو يُصوّرُ قوّة المشاعر. إنّها رواية معقدة، يجب وضعها في سياقها.