عدنان الأحمد بين المكان والمرأة

رسام جماليات مستعادة تهمس بإيقاعاتها.
الأحد 2022/02/06
الأحمد فنان تجريدي يبني مفرداته على أسس هندسية

كل يوم أمر بجداريته في أحد دروب مدينة المحرق الضيقة. وكلما مررت بها أقف أمامها لا بسبب إحساسي بأني لم أرها من قبل بل لأنها تواجهني بسؤال جديد. سؤال يتعلق بمصير الجمال المجرد في بيئة شعبية. كانت الجهة وهي مركز الشيخ إبراهيم الثقافي التي اختارت عدنان الأحمد لرسم الجدارية في ذلك المكان تعرف جيدا أنها لن تحصل على عمل فني واقعي يجذب الجمهور الواسع. شجاعة المركز وجرأة الفنان اجتمعتا لخلق عمل فني يتميز بقوته التعبيرية ونزاهته البصرية.

الهندسة وما يُشتق منها

الأحمد يبني مفرداته على أساس هندسي. الدائرة والمثلث وما اشتق منهما من أشكال. غير أنه لا يخلق في النهاية أشكالا تجريدية تماما وإن بدت للنظرة الأولى كذلك

يبني الأحمد مفرداته على أساس هندسي. الدائرة والمثلث وما اشتق منهما من أشكال. غير أنه لا يخلق في النهاية أشكالا تجريدية تماما وإن بدت للنظرة الأولى كذلك. لا يسيء إلى العمل الفني في شيء إن تم اعتباره تجريديا. ذلك كما أعتقد لا يُغضب الفنان. غير أن الإمعان في النظر إلى اللوحة يمكن أن يقودنا إلى قيم تشكيلية تجمع بين التشخيص والتجريد في عالم خفيض الصوت يهمس بإنسانيته.

هذا الفنان الذي لم يختر الرسم بل اختاره الرسم، لا يزال مسكونا برؤى إنسانية لن يفارقها. ذلك المحتوى الذي حاول أن يجمع شظاياه ليرممه عن طريق تركيبه لا عن طريق إعادته إلى شكله الأول الذي لم يتعرف عليه. هناك تجارب نحتية هي الأقرب إلى ذلك العالم من الرسم. ربما نذكر هنا برانكوزي. غير أن هناك رسامين سورياليين كانوا قد سبقوا الأحمد إلى ذلك العالم فصار عليه أن يستثمر قدرته على التماهي مع تجاربهم ليكون جديدا وبما ينسجم مع رؤاه التي تقبض على الشعر بيد قلقة وهو الذي يكتب نثرا يتشبه بالشعر غير أنه يقبض على جمرة التجربة الإنسانية.

من جديد، وفي كل مرة أقف فيها أمام جداريته أسأل نفسي “هل المحتوى هو ما يجعلني أعيش حيرة وجودية أم الشكل هو الذي يهب مشيتي إيقاعا مختلفا بعد أن أغادرها؟“. سعادتي بتلك الجدارية الكبيرة تعود إلى أسباب كثيرة منها أنها لم تُرسم لتسترضي ذائقة جمالية شعبية ذلك لأنها لا تحتوي على رموز وإشارات جمالية مستعارة من البيئة المحلية. كما يمكن اعتبارها عملا تجريديا غرائبيا لا يرغب في أن يقيم صلحا مجانيا وعشوائيا مع العين غير الخبيرة، ليس هناك شيء من الواقع فيه. إنه محاولة نزقة لتحدي النظرة البريئة وجذبها إلى مناخات جمالية خالصة.

كما لو أن الأحمد يقول لمشاهد جداريته “لنبدأ باللعب أولا وسنواجه الأسئلة الوجودية لاحقا”. تلك فكرة يواجهها كل مَن يرى الجدارية لأول مرة. وهي مصدر حيوية ذلك العمل الفني الذي أعتقد أنه سيدوم.

من الطب إلى الفن

المكان يتسرب بخياله إلى لوحات الفنان من غير أن يتشكل على هيئة قوالب جاهزة. إنه حاضنة للتعبير وليس إطارا خارجيا
المكان يتسرب بخياله إلى لوحات الفنان من غير أن يتشكل على هيئة قوالب جاهزة. إنه حاضنة للتعبير وليس إطارا خارجيا

ولد الأحمد عام 1960 بالمحرق في البحرين. عام 1987 حصل على الدبلوم الوطني العالي في الفنون التشكيلية والتعبيرية في الفن التطبيقي في بيزانسون بفرنسا. أقام معارض في الكويت وفرنسا والقاهرة وسلطنة عمان والشارقة وقطر ولندن وجنيف والسعودية. عام 1995 نال جائزة تقديرية في المعرض السنوي للفنون التشكيلية بالبحرين. وحاز على جائزة الشراع الذهبي في بينالي الكويت عام 1996. عام 2014 نال وسام الكفاءة من الدرجة الأولى من ملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة.

في حوار مع عباس يوسف نُشر في صحيفة البلاد يقول الفنان “كنت دائما أقول إن الفن اختارني أن أكون فنانا ليكون مستقبلي. قدري أن أكون فنانا“. كان يرغب في أن يكون طبيبا لكنه ذهب إلى فرنسا لدراسة الفن.

كانت مشاركته في بينالي بكين عام 2019 ممثلا للبحرين بلوحة حديث الروح مناسبة للظهور عالميا. ولم يكن الأحمد في حاجة إلى بكين ليؤكد أسلوبه الفني. من اليسير تمييز لوحته. البساطة والأشكال الهندسية والأصباغ الصامتة هي عتبات للدخول إلى موضوعاته المستلهمة من وقائع الحياة المشتركة لكن بطريقة إلهامية.

أعمال الأحمد تعد إضافة لافتة إلى المحترف الفني البحريني من أجل إغنائه بالأساليب، وفي الوقت نفسه فإنه يشكل طريقة جديدة في النظر إلى الموضوع المحلي

من خلال رسومه نسترجع عالما عشنا فيه لكننا نستعيده هذه المرة حلميا، كما لو أننا عشناه في الحلم. ذلك عالم نتذكره فيكون بعدها هو العالم الواقعي الذي عشناه. حيلة فنية تستبدل الحياة الواقعية بالحياة المستعارة من الحلم.

بالنسبة إلى الفنان ليس مهمّا أننا لم نكن هناك. المهم أن يتحرر الـ”هناك” من أبعاده الفيزيائية ليكون مكانا صالحا للعيش في أي لحظة تحول. سيحرر الرسم المكان والزمان من حيزهما فيهبنا صورا يمكن أن تعيش بغض النظر عن الوقت. ولكن هل سيمر الوقت؟

أي لوحة من لوحات الأحمد حين الوقوف أمامها تشعرنا أن الوقت باق كما هو ولن يتحرك. هناك زمن هو جوهر الفعل الفني لن يعبره فعل المشاهدة. تلك الكائنات التي ابتكرها الفنان بطريقة هندسية تعيش زمنا سرمديا مستوحى من علاقاتها الهندسية. معادلة رياضية لا تقبل النقض. وهو ما يدفع الرسام إلى أن يعيد استلهام أشكاله بشعور عظيم بلذة الخلق، كما لو أنه يرى كائناته وهي تنبعث من جديد في كل لحظة يرسمها فيها من جديد.

مثلما يحتفي الأحمد بروح المكان فإنه يستعير من المكان هندسة خياله في أبنية المحرق الطينية. يتسرب المكان بخياله إلى لوحات الفنان من غير أن يتشكل على هيئة قوالب جاهزة. إنه حاضنة للتعبير وليس إطارا خارجيا. مفرداته الجمالية تتداخل مع الأشكال الإنسانية المبهمة التي تهيمن على سطح اللوحة.

يضفي الأحمد على ذكرياته عن المكان طابعا شعريا شفافا تصدر عنه علاقة إلهامية تتسع كلما ضاق أفق الوصف. في كتابه “ألوان وحروف 50 لوحة وقصيدة” هناك غزل مزدوج بالمرأة والمكان باعتبارهما وسيلتي وضالتي جمال فالت لا تتسع له الكلمات والأصباغ. وهو ما يفتح الأفق على  احتمالات جمالية لا تقع ضمن الوصفات الجاهزة.

مكان يهرب من مفرداته

جداريته في المحرق التي تعتبر اليوم ملكا بصريا مشاعا تجمع بين العنصرين، المرأة والمكان، وتمزجهما كما لو أنهما الشيء الجمالي نفسه

هل حملته ذكرياته وهو يرسم إلى أن يفلت من قبضة المعنى الذي يختزنه المكان على أن يترجم شعوره بجماليات المكان بطريقة شعرية؟

تأثر الأحمد بالمدرسة التكعيبية التي تعرف عليها جيدا أثناء دراسته في فرنسا. ولكنه اختار أن يبسط عناصرها بحيث يبدو كما لو أنه لا ينتمي إليها لا رغبة في إنكار أثرها عليه ولكن من أجل أن ينسجم أسلوبه مع التحولات التي شهدها الرسم الحديث في البحرين في ثمانينات القرن الماضي وهي تحولات زاوج الرسامون من خلالها بين الطابعين المحلي والعالمي من أجل اختراع هوية فنية وطنية لا تكتفي بالتعريف بل تتجاوزه إلى مفهوم الأصالة الشخصية.

ما فعله الأحمد يعد إضافة لافتة إلى المحترف الفني البحريني من أجل إغنائه بالأساليب وفي الوقت نفسه فإنه يشكل طريقة جديدة في النظر إلى الموضوع المحلي يتمكن من خلالها الرسام من اكتشاف المواقع الخفية لجماليات ذلك الموضوع. وإذا ما كان الأحمد ركز على موضوعي المرأة والمكان فلأنهما الأكثر تجسيدا لخيال وموهبة الفنان التقليدي في بلد كالبحرين. من خلالهما يتمكن الرسم من الوصول إلى غايات لم يكن الرسام ينوي الوصول إليها.

وحين أعود إلى جداريته في المحرق والتي صارت ملكا بصريا مشاعا فإنها تجمع بين العنصرين بل وتمزجهما كما لو أنهما الشيء الجمالي نفسه. ولقد ساعده الشعر على أن ينظر إلى الأشياء بطريقة خفيفة تحتمل مختلف التأويلات.

9