الروائي محمد عيسى المؤدب: الأدب التونسي خرج من العزلة

انتهى زمن القارئ الطيب والإبداع ثورة متسارعة.
الجمعة 2022/02/04
الرواية سفير سياحي ودبلوماسي

يعتبر الكاتب التونسي محمد عيسى المؤدب من أبرز الأصوات الأدبية التونسية التي عادت إلى الساحة الأدبية بعد سنوات من الانقطاع عن الكتابة، عودة كللت بعدد من الإصدارات والجوائز. في هذا الحوار نتعرف مع الكاتب على عوالمه ورؤاه الأدبية والفكرية كما نتحدث عن صناعة الكتاب وحركة النشر والترجمة وعن مشروعه الروائي والهندسة الفنية للكتابة الحديثة، وغيرها من القضايا.

تونس – يقول القاص والروائي محمد عيسى المؤدب إن الثورة التونسية أعادته إلى الكتابة، وخلّصته من كل القيود، بعد انقطاع دام  إحدى عشرة سنة. ويرى المؤدب أن الكتابة أيضا ثورة، والرواية سفير سياحي ودبلوماسي.

في هذا الحوار يتحدث المؤدب أيضا عن منجزه الإبداعي، وخاصة روايته الأخيرة “حذاء إسباني” (2020) كما يكشف عن الملامح الكبرى لروايته الجديدة الذي يشتغل عليها حاليا.

والكاتب محمد عيسى المؤدب، حائز على الأستاذيّة في الحضارة واللغة العربيّة، ومنتج برامج أدبيّة بالإذاعة التّونسيّة، يحمل في رصيده العديد من المجموعات القصصية منها “عرس النّار” الحائزة على الجائزة الوطنيّة لأدب الشّباب في القصّة القصيرة، والعديد من الروايات ومنها “جهاد ناعم” 2017 المتوجة بجائزة الكومار الذّهبي، و”حمام الذهب” التي أهدته جائزة معرض تونس الدّولي للكتاب في الرّواية (نوفمبر 2021) وتم اختيارها ضمن القائمة الطّويلة لجائزة البوكر العالميّة للرّواية العربيّة (دورة 2020).

قارئ جديد

تحل بعد أيام ضيفا على معرض القاهرة الدولي للكتاب ونراك تتنقل كثيرا أيضا داخل تونس، نسأله إن كان اختيارا مقصودا منه، ليجيبنا المؤدب “هي دعوات تأتيني والحمد لله منذ أن كنت طالبا ثم أستاذا والآن بوصفي كاتبا. وأنا أؤمن أن الكتابة ليست فقط كتابة كتب بل لقاءات وحوارات والاستماع إلى نصائح من سبقوا من كتاب كبار”.

ويضيف “أقرأ كل شيء دون انتقاء لأنني أستفيد من كل شيء. وأقرأ بالخصوص كل ما يكتبه الحبيب السالمي وشكري المبخوت وأبوبكر العيادي وحافظ محفوظ وآمنة الرميلي وأميرة غنيم كذلك في رائعتها الأخيرة ‘نازلة دار الأكابر‘. هناك تقريبا بين 40 و50 رواية تصدر سنويا إلى جانب 15 أو 20 مجموعة قصصية، فمن المهم، حتى إن لم نقرأ كل ما يُنشر، أن نطلّع على العناوين الكبرى”.

ويتابع “ربما هناك من ليست له فكرة عمّا ينتج في تونس فالأدب التونسي في السنوات الأخيرة خرج من العزلة لأن دُور النشر في الماضي كانت مجرد مطابع تطبع الكتاب كما تتسلمه من الكاتب دون إضافات في مستوى القراءة أو التحرير. أما الآن فقد أخذت منعرجا هاما فأصبحت تُعنى بالتحرير والمراجعة والتدقيق اللغوي”.

التورط مع جهة سياسية يجعل الكاتب يسقط في المجاملة أو المعاداة وهو ليس دور الفنان أو الكاتب

نسأله عن المجهودات في مستوى النشر المشترك، ليستشهد المؤدب بدار مسكلياني التي يتعامل معها، والتي نشرت له روايتي “حمام الذهب” و”حذاء إسباني” بالاشتراك مع دار مسعى بكندا، وستتولى قريبا إصدار الطبعة الثانية لـ”حذاء إسباني” مع دار نشر جزائرية.

يقول الكاتب “هناك عمل جدي وحرفية في كل مراحل إنتاج أو صناعة الكتاب بدءا من لجنة القراءة والتحرير والتدقيق اللغوي والمراجعة الأخيرة ثم النشر والتوزيع. والبحث عن هذه الحرفية في التعامل وعن احترام المتلقي هو الذي يجعل الكاتب ينتقل من دار نشر إلى أخرى. فاليوم أمام هذه الموجة من تطور وسائل الاتصال ووجود الكتاب الإلكتروني لا بد أن تحترم القارئ خاصة مع وجود منافسة من الكتاب الإلكتروني”.

قال المؤدب سابقا إن قارئ الأمس ليس قارئ اليوم، نسأله عن الفرق بينهما فيجيب “قارئ الأمس هو قارئ عفوي قارئ ‘طيب‘ فهو يقرأ بعفوية ولا يحاسب الكاتب، أما اليوم فهو قارئ صعب متقلّب المزاج وسريع البديهة، أي أنه من العشر صفحات الأولى إن لم يعجبه الكتاب يتركه جانبا وربما لا يعود إلى كاتبه مطلقا. لذلك لا بد أن يتميز العمل الأدبي بحرفية ويحترم القراء، لقد تطورت الكتابة الأدبية بتطور الزمن”.

كتب المؤدب رواية “جهاد ناعم” التي وصفها البعض بالصادمة، ثم أصدر “حمام الذهب” التي تعرّض بعدها للتهديد ومع ذلك واصل تناول مسألة الأديان ضمن مشروع شامل هو “الأديان والمكان” حول السر وراء إطلاق هذا المشروع واختيار هذا التوجه بالذات، يقول الكاتب “دعني أقول لك إنه ليس من السهل الانقطاع عن الكتابة 11 سنة (من سنة 2000 إلى 2011) فبعد المجموعة القصصية ‘أية امرأة أكون؟‘ توقفت عن الكتابة والسبب هو أنني أعددت مجموعة قصصية كانت ستصدر سنة 2000، لكن صعوبات نشرها ومحاولة ‘صنصرتها‘ والشعور بأنني لا يمكن أن أكتب بصدق جعلني أبتعد ولم أنشرها، بل إنني حين استرجعت مخطوط الكتاب من الناشر آنذاك أحرقت المجموعة. وهذه المجموعة كانت تتمحور حول عالمة اجتماع فرنسية اسمها هيلينا جاءت إلى تونس وكتبت عدة قصص عن حقائق اجتماعية وسياسية في مدينة القصرين”.

ويقر بأنه لا أحد يشعر بمأساة الكاتب حين يعرف أن كتابه لن ينشر بصيغته الأصلية. فالكتابة ثورة. وحين جاءت الثورة حاول المؤدب أن يسترجع قصص هيلينا فوجد نفسه يكتب رواية “في المعتقل” (2013) وهي تجربة أولى في الرواية كتبها بآلامها وبعذاباتها مع التخييل. ومن هناك دخل عالم الرواية وقال إنه لا يمكن أن يواصل دون أن يكون له مشروع. وفكّر في مشروع الأديان وعلاقتها بالبلاد التونسية لذلك قرر أن يكتب عن الإسلام واليهودية والمسيحية.

ويتابع “بدأت برواية ‘جهاد ناعم‘ التي تحمل رسالة أساسية وهي كيف أن ديننا دين سلام وتسامح وكيف حُوّل بعد الثورة إلى دين تطرف مع الإسلام السياسي، وربطه بمفاهيم أخرى وافدة غير منسجمة ولا موافقة أو محترمة لإسلامنا. وقد تناولت هذه الثنائية لتبيان الفرق بين ديننا الحقيقي دين آبائنا وأجدادنا، والدين بالمفاهيم التي أتى بها هؤلاء (موت، قتل، إرهاب). فكانت الرواية معالجة لقضايا الاتجار بالدين وتهريب الآثار الذي هو في الحقيقة تهريب للهوية، هوية التونسيين”.

وفي رواية “حمام الذهب” تطرق المؤدب إلى يهود “القرانة” الذين جاؤوا خلال القرن 17 من إيطاليا واسبانيا وعاشوا في حارة اليهود في مدينة تونس، وفي “حذاء إسباني” تناول حكاية مانويل قريقوري وهروب 3500 بحار إسباني و500 مدني من اضطهاد الجنرال فرانسيسكو فرانكو، ولكن في تونس لم تكن حياتهم يسيرة بل استغلهم المستعمر الفرنسي في الأشغال الكبرى الثقيلة وعاشوا عذابات كثيرة.

الرواية مشروع فكري

الكتابة أيضا ثورة
الكتابة أيضا ثورة

يقول المؤدب “في قناعتي، الكتابة الروائية متطورة متحولة متنوعة فلا يمكن إسقاط أي هندسة على كل الروايات فلكل موضوع هندسة خاصة به”.

تحدث المؤدب عن تأثره بحنا مينا وهو من مدينة ساحلية (اللاذقية). وقد لاحظنا تعلقه الكبير بالبحر وقد تحدث كثيرا عن البحارة وعن عالم الصيد. علق على ذلك قائلا “نعم البحارة حاضرون لا فقط في روايتي ‘جهاد ناعم‘ و‘حذاء إسباني‘ بل كذلك في مجموعتي القصصية الأخيرة ‘حديقة حقوق الإنسان‘ هناك عدة قصص عنهم. علاقتي بالبحر قوية بحكم أنني أقطن في منطقة قريبة جدا من البحر ولا تبعد سوى 3 كيلومترات عن ميناء سيدي داود المعروف، ومنذ طفولتي كان والدي يشتغل سائقا في الديوان القومي للصيد البحري وكنت أرافقه الى ميناءي سيدي داود وقليبية فكنت أرى عذاباتهم وتعبهم، ولياليهم التي يقضونها في البحر. وقد بقي كل ذلك في خيالي وذاكرتي مما ساعدني على استحضارها في أعمالي”. 

ويتابع “نحن ربما نعرف عالم البرّ، لكن عالم البحر كبير وغير متاح لأيّ كان ليعرفه. وقد لاحظت أن عالم البحر غير موجود بشكل كبير في الأدب التونسي لذلك اتجهت لأن أستحضر البحر بشكل مهم”.

في مختلف رواياته يوجه المؤدب رسائل إلى السلطة، يقول “رسالتي التي أكررها دائما هي هوية بلادنا، القائمة على المحبة والتسامح والتضامن. فبلادنا بلاد مسالمة لا عنف ولا تطرف وهذه رسالتي إلى الداخل والخارج. فالكتاب اليوم والرواية بشكل خاص هي أكثر وجهة سياحية تقدّم البلد، بل يمكن أن نقول إنها سفير سياحي ودبلوماسي. من يعتقد أن بلادنا بلاد تطرف، ستتغيّر فكرته تماما عندما يقرأ الروايات الثلاث. وهو ما حصل مع العديد من القراء في العالم ممن تواصلوا معي وأخبروني أنهم لم يكونوا يعرفون عن تونس تلك الجوانب. ثمّ هناك رسائل سياسية للداخل تتعلق بهفوات السلطة ونقائصها ورسائل للشباب، للمجتمع، للمتاجرين بالدين وغيرهم”.

ونحن نتحدث عن الرسائل السياسية، نسأله كيف يرى علاقة المثقف بالسياسة؟ ليجيبنا “قناعتي أن الكاتب أو الفنان يجب ألا يتورط مع أيّ جهة من الجهات حتى إن كانت تلك التي يعاديها في كتاباته بالمعنى الفني. يجب أن يبقى محايدا حتى يقدّم الإنسان، ويقدّم المشهد من زوايا مختلفة. فالتورط مع جهة سياسية يجعل الكاتب يسقط في المجاملة أو المعاداة وهو ليس دور الفنان أو الكاتب”.

ويتابع المؤدب “خارج كتاباتي أنا مثلا عندي عدوّ معروف في كل رواياتي فأنا ضد الإسلام السياسي لأنه ضد هوية بلدي، ليس ضد عيسى المؤدب، وكل تيار سياسي ضد هوية البلد أنا ضده وأرى أنه لا بد من تفكيك الإسلام السياسي لأنه يحمل البلاد نحو المحرقة. ومن يقرأ الروايات الثلاث يفهم ذلك جيدا”.

قارئ الأمس عفوي وطيب يقرأ بعفوية ولا يحاسب الكاتب أما اليوم فهو قارئ صعب متقلب المزاج وسريع البديهة

نسأله إن كان مشروع “المكان والأديان” في كتاباته اكتمل بروايته الثالثة، إذ قال إنه سيدخل غمار مشروع آخر فيه استلهام من التاريخ، يقول المؤدب “مازلت في التاريخ لأنني كلما رفعت حجرا أعثر على كنز آخر، فأجد نفسي في عالم روائي جميل. للأسف تاريخنا مغيّب، وبلادنا فيها الكثير من القصص التي لا نعرفها، وفي الحقيقة اكتشفتها إما عبر البحث أو أحيانا عن طريق الصدفة التي تدفعني إلى البحث عن التفاصيل لأنطلق منها. فلا بد من جرأة في البحث”.

ويضيف “بالنسبة إلى الرواية الجديدة، ولو أنني لا يمكنني الحديث عن عمل وأنا بصدد الاشتغال عليه، ولكن يمكنني أن أكشف لك أن فيها ثلاثة أديان وثلاثة أصوات، وهي من الحكايات المسكوت عنها. أحد الأصدقاء أرسل لي تدوينة فحفزتني لانطلق في رحلة بحث طويلة. وتحصلت على عدة كتب نادرة وزرت أماكن وتحدثت مع أشخاص مما ساهم في إثراء معارفي حول الموضوع، فأنا أشتغل بالبحث والمعايشة والشهادات”.

ويتابع الكاتب التونسي “علاقتي متينة بالزمان والمكان، فالرواية تسكنني إلى درجة أنني أذهب إلى الأمكنة وأعيش أحداث الرواية. مثلا قبل كتابة رواية ‘حمام الذهب‘ ذهبت إلى حمام الذهب بالمدينة العتيقة أكثر من عشر مرّات للاستحمام والاستماع إلى الحكايات عنه، حتى تكون عندي خلفية عن الموضوع. وقمت بالبحث عن الأسطورة المتعلقة بالحكاية في محيط الحمام وفي سيدي محرز وعشت مع الأهالي هناك عدة أيام، فضلا عن الاطلاع على عديد المصادر من مكتبة بلدية تونس. فحين أكتب أرسم المشهد بدقة وأعيش فيه مع شخصيات روايتي، وأتنقل معها في الخيال، فأنا أعيش مع أفكارهم وعذاباتهم وأعيش معهم الحب وجلسات المقاهي وجلسات الأنس والمحبة”.

بعد الثورة وزوال كل الخطوط الحمراء يمكن القول إنه لم يعد هناك مواضيع مسكوت عنها، ويرى المؤدب أنه بما أن كل المواضيع باتت متاحة، فالمسألة أصبحت تتعلق بالمهارة الفنية وتكمن الصعوبة في طريقة التناول، كيف تسرد، وكيف تقنع القارئ بمعالجة موضوع قد يبدو عاديا ومتناولا ومألوفا لكن بطريقة أخرى. فالهندسة الفنية للرواية اليوم لم تعد مقتصرة على بداية وتحول وخاتمة بل اليوم هناك كتابة حديثة استغنت عن الطريقة الكلاسيكية واستدعت تعدد الأصوات والصورة والفنون وغيرها من تقنيات الكتابة الحديثة.

نسأله ما الذي يجعل الكتاب التونسي لا يصل إلى بعض القراء، ليجيب “في تقديري، اليوم لم تعد هناك عراقيل. بل إن المُعطّل الكبير هو جودة النص، فإذا كانت للنص قيمة وتم إنجازه بحرفية أكيد سيصل إلى القارئ في أي منطقة من مناطق العالم.

وحول موضوع النقد يقول الكاتب “في تونس يخطو النقد خطواته بتؤدة في حين أن الإبداع ثوري متسارع. وما يجعل النقد محتشما لا فقط في تونس بل في المغرب العربي وربما الوطن العربي بدرجة أقل، هو العزوف عن تناول النصوص الجديدة التي تقدمت كثيرا، لذلك أقول إن الإبداع متطور كثيرا عن النقد. ربما هناك خوف أو تردّد. فأغلب الأطروحات النقدية تتجه نحو الأعمال القديمة. ورغم ذلك أعتقد أنني محظوظ فهناك كتب كثيرة تناولت تجربتي الروائية.

13