متى تتحرر قطر من الخوف

قطر التي يعتزم الرئيس الأميركي جو بايدن تصنيفها كـ”حليف رئيسي من خارج حلف الأطلسي”، هي في الوقت نفسه حليف رئيسي لإيران من خارج حلف الميليشيات التابع للولي الفقيه.
جانب من هذا الحلف إنما يتعلق بالشراكة الاقتصادية، لاسيما في حوض واحد من أكبر حقول الغاز في المياه الإقليمية المشتركة، وهي شراكة ظلت توفر لإيران تمويلات تمر من تحت أنف العقوبات الأميركية. ولكن جانبا آخر يتعلق بمشاعر الخوف من هذا الجار الذي لا يتوانى عن شن اعتداءات أو ممارسة سياسات التهديد والابتزاز. وهو ما يضطر قطر إلى أن تدفع إتاوات صريحة ومضمرة له ولميليشياته.
وجود نحو 10 آلاف جندي أميركي في قواعد عسكرية في قطر، و”الشراكة الدفاعية القوية”، كما وصفها أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني عقب لقائه بوزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، والدور المشهود الذي لعبته قطر في رعاية المفاوضات بين طالبان والولايات المتحدة، والتسهيلات الضخمة التي قدمتها للقوات الأميركية والأطلسية المنسحبة من أفغانستان، تجعل قطر في موضع الحليف الذي لا يمكن التخلي عنه إذا ما واجه أي تهديدات.
وكلما توثقت العلاقات بين واشنطن والدوحة، كلما ثقل ميزان الثقة بالنفس، وخف ميزان الخوف من إيران. على الأقل، لكي لا تعود قطر بحاجة إلى دفع إتاوات للحرس الثوري الإيراني ولا تدبير تمويلات غير منظورة لحزب الله، ولا السعي لاحتلال موطئ قدم في حقول الغاز المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل، ليكون مناسبة إضافية لتقديم تمويلات تمر هي الأخرى من تحت أنف العقوبات الأميركية ضد حزب الله.
المصالح الرسمية قد يجدر أن تبقى، ولكن لا حاجة إلى أن تكون التواطؤات المضمرة جزءا منها. هذا غير ضروري بالنسبة إلى طرف يثق بنفسه، ويثق بحلفائه، وبروابطه الدفاعية المتينة معهم.
التحرر من الخوف هو الخطوة الأولى، وهي باتت استحقاقا واجبا. ليس لأنه لم يعد للخوف مبرر، ولكن، لأن "مسافة السكة" بين الدوحة وأبوظبي والرياض والكويت والمنامة، أقرب بكثير
بالنسبة إلى التوازنات التي تحرص قطر على بقائها واستقرارها، فإنها الآن في وضع مثالي تماما، لكي تحررها من الخوف. وتصنيف قطر كحليف رئيسي خارج الأطلسي، إنما يوفر لها معظم امتيازات العضوية في هذا الحلف، من جهة المسؤوليات الأمنية والدفاعية المشتركة.
وفي الواقع، فقد أبلت قطر بلاء حسنا في توثيق روابطها، ليس مع الولايات المتحدة، وإنما مع باقي الشركاء الأطلسيين أيضا. والدور الذي لعبته في توفير التسهيلات والتدابير لإدارة المرحلة الانتقالية في أفغانستان، منحها وضعا فريدا كحليف جدير بالاحترام بالنسبة إلى كل الدول الأعضاء في الحلف. ولو أنها تعرضت لأي تهديد، أو أي عمل من أعمال الابتزاز التي تمارسها إيران، فإنها سوف تجد كل هؤلاء الأعضاء يقفون إلى جانبها قولا وفعلا.
مكانة قطر كأكبر مورد للغاز في العالم، في خضم الأزمة القائمة بين روسيا وشركاء الأطلسي بشأن أوكرانيا، تُظهرها الآن كاحتياطي أمني واستراتيجي من الطراز الأول. وهو ما يؤكد في الوقت نفسه الأهمية الاستراتيجية لأمن الملاحة في الخليج، الذي تضعه إيران تحت التهديد.
لم تتعرض سفن الملاحة القطرية لما تعرضت له سفن الملاحة الإماراتية أو السعودية. ولكن القصة هنا تشبه قصة الثور الأحمر الذي قال “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض”.
مكانة “الحليف الرئيسي خارج الأطلسي” توفر لقطر الفرصة لما هو أبعد من مجرد التحرر من ربقة العلاقات غير المتوازنة مع إيران.
بوسع الدوحة أن تكون شريكا حقيقيا في الأمن الخليجي، عندما يتعلق الأمر بأي تهديدات تمارسها إيران، عن طريق وكلائها، ضد أي دولة خليجية أخرى.
بيئة المصالحة الخليجية نفسها تحتاج أن تتوطد بشراكة تتعالى على كل ما هو ثانوي، من أجل أن تقدم تضامنا صريحا مع السعودية والإمارات والبحرين والكويت، التي تتعرض كل منها إلى نوع مختلف من أشكال التهديد من جانب إيران وميليشياتها والأحزاب التابعة لها.
بوسع الدوحة أن تكون شريكا حقيقيا في الأمن الخليجي، عندما يتعلق الأمر بأي تهديدات تمارسها إيران، عن طريق وكلائها، ضد أي دولة خليجية أخرى
قطر القوية، والتي تحتل مكانة الحليف والصديق الموثوق به من جانب الولايات المتحدة وشركاء الأطلسي الآخرين، يجدر أن تسارع بتوظيف هذه المكانة لتحصين حياض الأمن الخليجي. حتى وإن كانت الدوحة تعرف سلفا أن الدول الخليجية التي تتعرض لاعتداءات إيران قادرة على مواجهتها، بل قادرة على رد الصاع صاعين. ولكن بعض الأخوة يبدأ من شهامة الموقف، وليس بالضرورة من الحاجة إلى توظيف القوة الدفاعية المباشرة.
الشهامة رادع فعلي. ويمكن لقطر أن تبادر إلى تقديمها، فتتعزز مكانتها بين مَنْ هم أهم لأمنها ومنعتها حتى من الأطلسي كله على بعضه.
لم ترسل مصر طائرات ولا دبابات ولا صواريخ إلى الإمارات، ولا للمشاركة في الحرب ضد الحوثي في اليمن. ولكن ذهب الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى أبوظبي، ليقول لإيران وللحوثي “نحن هناك”، وإنّ الشراكة الأمنية ما تزال على قدر “مسافة السكة”.
هذا الشيء نفسه يمكن للشيخ تميم أن يفعله. وحتى لو كانت هناك بعض منغصات في العلاقات بين قطر والعواصم الخليجية الأخرى، فقد وفر العدوان على أبوظبي فرصة نادرة، لكي تحتل قطر ضفة التضامن الأعلى، فتكسب زوال المنغصات، وفوقها ما تستحقه الشهامة بما يجدر أن تُقابل به.
والحقيقة، هي أن الشهامة شيء من طبائع القطريين. جزء من أصالتهم. وهم ظلوا يقدمونها حتى لمن يؤذيهم ويحرجهم. صحيح أن سلطة الأمير الأب الذي خلع نفسه، أرادت أن توظف جماعات الإخوان لخدمة استراتيجيات تخريب وتمزيق معلنة في المنطقة، ولكن صحيح أيضا أن تلك السلطة فعلت ذلك بغطاء الشهامة القطرية في حماية كل من يلوذ بها أيضا. بقول آخر، وظفت الطبائع الطيبة لخدمة الشر. ولكن الأصيل ظل أصيلا. وهو الذي يغلب في النهاية.
قطر الآن في مكانة تؤهلها تماما لكي تجعل طبائع الخير هي الغالبة في مواجهة رياح الشر التي تهب من الضفة الأخرى للخليج.
التحرر من الخوف هو الخطوة الأولى، وهي باتت استحقاقا واجبا. ليس لأنه لم يعد للخوف مبرر، ولكن، لأن “مسافة السكة” بين الدوحة وأبوظبي والرياض والكويت والمنامة، أقرب بكثير.