في هذا الشتاء

اللاجئون من سوريا وغزة والصومال وأفغانستان وغيرها من البلدان يستحضرون أوطانهم من خلال حاسة التذوق لكنها لا تحضر.
الأحد 2022/01/30
الشتاء يستحث خليطا من الأفكار

في أيرلندا، اعتاد شتاؤنا على أن يكون مُهذبا مثلها. فرُغم ارتفاعها شمالي القارة، إلا أنها بلا أكوام ثلوج وبلا حتى طفيفها، لاسيما في غربي الجزيرة المطل على الأطلسي. عدت إليها من النرويج الملفوفة بالثلج الأبيض، والتقطت لمنطقة دبلن صوراً من الطائرة يوم الثالث عشر من ديسمبر، وأخرى بعد الهبوط، وكانت الشمس ترسل أشعتها الباردة!

بدأنا هنا، السهرات العائلية. فمن محاسن الصدف، أن التقينا في المقاطعة، بعدد من العائلات السورية والفلسطينية، المتطابقة في تقاليد حياتها. هنا، تؤدى الواجبات الاجتماعية كما في بلادنا في أوقات الرخاء. تصنع السيدات الحلوى ويتبادلنها، أو يتشاركن في صنعها، ما خلا بعض المألوف في خصوصيات المناطق. ومن بين خبرات زوجتي مناقيش الزعتر والجبنة، وتصنع سيدات أخريات، اللبنة و”مكدوس” الباذنجان ويهدين من لا تصنع، مثلما فعلت أم هشام خلال اليومين الماضيين، عندما جاءت مع أبي هشام بمرطبان لبنة وآخر “مكدوس”. تُقام الصلاة، فيؤم أبوهشام الذي يُعلّم الأطفال اللغة العربية (أون لاين) في أيام الآحاد. هو أستاذ مخضرم عمل في المدارس السورية في “الحسكة” قبل أن تغشى المنطقة حثالات الدواعش!

كان وما يزال الغرب حنوناً على من لجأوا إليه مبكراً واستقروا فيه. لكن ما يبثه هؤلاء، لبقايا أهلهم عن سهولة الحياة، يُحفّز الكثيرين على محاولة الوصول بعد إغلاق المسالك. فمن وصلوا ارتاحوا، ومن تبقوا يعانون. وبينما أصبحت لفة الخبز في سوريا تنهب جزءاً معتبراً من الراتب، وما تبقى يكفي ليومين مع التقشف؛ تتوافر للمقيم في أوروبا، كل أنواع الطعام، وتذهب به ذائقته، إلى ما يماثل طعام الميسورين في بلاده. فاللاجئون من سوريا وغزة والصومال وأفغانستان وغيرها من البلدان، يستحضرون أوطانهم من خلال حاسة التذوق، لكنها لا تحضر، وكلها بلدان مسلمين. والأنكى أن الغرب نفسه، الذي التزم ما يسمى بـ”قانون قيصر” في سوريا؛ أوقع الفأس في رأس الشعب لا في رأس النظام الذي يستهدفه، فتضاعفت أسباب الفرار. وصناع الكوارث ميسورون لا يألمون.

في الأسابيع الأخيرة، اضطرت أستاذة جامعية ابنة صديق لي من اللاذقية، إلى الفرار من جامعتها وبلدها إلى تركيا، لأن راتبها الذي يساوي خمسة عشر دولاراً، لا يجلب جرة غاز من السوق السوداء!

تٌستطاب القراءة في هذه الأجواء. ومن عاداتي في القراءة التنويع والتنقل من موضوع إلى آخر في اليوم نفسه، فتتقاطع السياسة مع التاريخ. معي الآن كتابٌ ظريف من إصدار “دار صفحات للدراسات والنشر والتوزيع” وهي لفلسطيني من سكان سوريا مقيم في السويد، وقد أصدرت الدار باقة من أروع العناوين بطباعة فاخرة، وطبعت كل ما كتبه صديقي أحمد الدبش، الباحث في التاريخ القديم. وتشارك دار “صفحات” في كل معارض الكتاب في العالم العربي.

الكتاب الظريف يقدم رواية بديعة، عن تمسك الفلسطيني بوطنه مهما اغترب أو عاش في بلد يندمج فيه كمصر، لاسيما عندما يكون الاندماج في حي شعبي. العنوان نفسه يرسم مفارقة “رحلة لاجئ من لوبية إلى بولاق الدكرور” ترويها ابنته هدى الصمادي، على لسان أبيها. فأن يرتحل فلسطيني، من بلدته على مقربة من بحيرة طبريا في شمالي فلسطين، إلى حي بولاق الدكرور كثيف السكان، غرب الدقي، مسألة فيها سيرورة حياة استثنائية.

يستحث الشتاء خليطاً من الأفكار، وإن كانت الريح هنا عاقلة وبلا صفير. الطقس محض بارد ويعلو في الليل عن الصفر قليلاً. لا إشعال للنيران، فالتدفئة تكفي، وصوت المطر أقل من الهزيم!

20