عمر الراشد.. ابن البيئة بجمالياتها الخفية

عام 2021 أقام الرسام عمر الراشد معرضا شخصيا في عمارة بن مطر بالمحرق بعنوان “الحوش” أي البيت. في ذلك المعرض سعى الفنان إلى الكشف عن مرجعياته الواقعية من غير أن يتخلى عن أسلوبه الذي يجمع بين التشخيص والتجريد وإن كان الراشد يعتبر من أهم الرسامين التجريديين في المحترف التشكيلي البحريني.
أكان عليه أن يكون واقعي الأسلوب من أجل أن يخلص إلى رؤيته النقدية التي تستند إلى عاطفة صارمة في ضديتها حين يتعلق الأمر بالمفردات التراثية التي استلهمها الكثير من الفنانين الخليجيين جماليا؟
القابض على فيض الحكايات
الراشد يذهب إلى عمق الرؤية سواء في علاقته مع المرئيات ذات الخصوصية المحلية أو مع الحكايات التي تشده إلى طفولته وإلى أشكال النساء اللواتي انتقلن من الواقع إلى الحلم
الراشد يذهب إلى عمق الرؤية سواء في علاقته مع المرئيات ذات الخصوصية المحلية أو مع الحكايات التي تشده إلى طفولته وإلى أشكال النساء اللواتي انتقلن من الواقع إلى الحلم. لذلك فإنه لم يشعر بالحاجة إلى الوصف أو التوضيح.
يحتاج من البيت إلى هوائه الحرّ. ذلك الهواء الذي يحمل بين ثناياه الذكريات والحكايات والأصوات والصور والمفردات الجمالية. مزيج هو الأساس الذي يستخرج منه الفنان فكرته أو على الأقل مزاج تلك الفكرة التي ينطلق منها لابتكار أشكاله التي يقيس حركتها في إطار موسيقى تنبعث منها.
“الحوش” خلاصة عمر، ثلاثون سنة قضاها الراشد في الرسم، لم يستعد من خلاله تجربته في الرسم على طريقة المعارض الاستعادية بل عرض أفكاره عن الرسم كما عاشه وكما اخترع حياته فيه وكما توصل إلى نتائجه البصرية من خلاله.
لا يحتاج الراشد أن يقول “كنت هناك”. ذلك الـ”هناك” الذي حمله الفنان معه صار مع الوقت أكثر صفاء وأشد شفافية بحيث تخلى عن كل مظاهره الخارجية ليخلص إلى عناصر جاذبيته الداخلية.
ينتمي الراشد إلى سلالة رسامي التجريد الغنائي. الجميل في رسومه أنها لا تزال حية في تجريدها الغنائي وهو ما يشير إلى أن الفنان يتحرك في مجال حيوي لا يتحرك فيه سواه.
أعماله تجمع بين مؤثرات مختلفة. فهو يرى غير أنه يبذل كل جهده من أجل أن يفصل بين الموضوع وفكرته، هناك حيث تقع الصورة. وهناك يتحقق الرسام من قوة موقفه الجمالي
ذلك المجال يتألف من مرئيات مندثرة ومحاولات لإحياء صور لتلك المرئيات لكن عن طريق التجريد. يتنقل الراشد بخفة بين عالمين لا يرغب في الاكتفاء بواحد منهما.
ولد في المحرق عام 1966. ذلك ما صنع له خلفية تمزج بين عالمي الطبيعة والنتاج الجمالي التراثي بتقنية يدوية. وهو ما استفاد منه في مختلف مراحله الأسلوبية. لقد طوع ذلك المزيج في خدمة طريقته في التفكير الفني، بحيث بدا العاملان كما لو أنهما كيان لوني واحد كان مصدره في ابتكار مساحاته اللونية. وإذا ما تفحصنا ذلك المصدر بدقة سنكتشف أن الفنان كان قد شغف بما تتركه ثياب النساء القرويات من أثر بصري هو في حد ذاته محاولة حسية للتقرب من الطبيعة بكل تنويعاتها اللونية.
يقدم الراشد درسا فريدا في استلهام المفردات التراثية المحلية. لقد وقع تحت تأثير ألوان الملابس التي ترتديها النساء وفي الوقت نفسه كانت الحكايات تتسرب إليه، تشبعه حياة وتعيده إلى حياة كان عاشها. حياته التي هي مزيج من الصور. فكرة أن تتحرر من الصورة المباشرة لتلجأ إلى غموض ما لا يُرى في ظل سيادة الإيقاع.
استفاد من تلك الاحتفالية اللونية حين أصبح ملونا من طراز نادر. لقد مزج الصور، بعضها بالبعض الآخر. ولكن النتيجة ستنحاز إلى خيال الصورة الذي سينتج أشكالا تجريدية. لا ينفي الراشد صلته بالواقع غير أنه يهبه نوعا من القوة حين يحتفي به باعتباره مرجعا بصريا.
سيُقال إن رسومه شبه حداثوية في محاولة للتذكير بمصادره الواقعية. ولكن ذلك الوصف سيخون النتائج التي تكشف عن المنحى التجريبي الذي اختطه الفنان طريقا لتجربته الفنية.
صلح بين الناس ومصائرهم

درس الراشد الرسم في كلية التربية الفنية بجامعة حلوان بمصر. أقام معارض شخصية عديدة ونال جوائز على المستوى الخليجي. في عام 2012 نال الجائزة الكبرى في بينالي الخرافي بالكويت. عام 2013 فاز بالجائزة الأولى في مهرجان الخليج العربي الأول للفن التشكيلي المعاصر الذي أقيم في الرياض عن لوحته “الرحيل”. كما نال جائزة السعفة الذهبية في المعرض الدوري للفنون التشكيلية لدول مجلس التعاون في الشارقة.
عام 2014 أقام معرضا شخصيا في قاعة رؤية بجدة. وفي عام 2016 أقام معرضا مشتركا مع الفنانة الكويتية مي السعد بعنوان “هلي” في متحف الفن الحديث بالكويت. لذلك العنوان المباشر دلالاته الثقافية التي قصد الرسام من خلالها أن يوجه ذهن المتلقي إلى حقيقة ما يختفي من الصورة تحت حفلة ألوان. سيكون على المتلقي حينها أن يستحضر مزاجه العاطفي من خلال الألوان التي تتصادم بصخب.
يعيد الراشد ذلك الصخب اللوني إلى الشمس التي تتمتع بلاده بحضورها القوي في معظم أيام السنة. ذلك لا يمنع الفنان من الاعتراف بأنه غالبا ما يبالغ في حماسته للون. كان ذلك المعرض محاولة لإقامة صلح بين الناس وحضورهم اللوني البهيج.
سحر الطبيعة وأنوثتها

رسومه قد توصف بشبه الحداثوية في محاولة للتذكير بمصادره الواقعية. ولكن ذلك الوصف سيخون النتائج التي تكشف عن المنحى التجريبي الذي اختطه الفنان طريقا لتجربته الفنية
أما معرض “الفارس” الذي أقامه عام 2014 في قاعة الرواق بالمنامة فإنه يكشف عن الوجه الآخر للفنان. ذلك الوجه الذي عبر الفنان من خلاله عن إعجابه بالحصان العربي، لكن بالأسلوب نفسه الذي استلهم من خلاله جماليات الطبيعة ومفردات البيئة الشعبية التي اكتسبت من خلال ذلك الأسلوب طاقة حيوية جديدة.
كان ذلك المعرض فرصة له ليطلق العنان لمهاراته، غير أن الحرفة لم تغره بحيث يخضع لها. لقد وضع الصورة في خدمة خياله اللوني. صورة الحصان كما يفكر فيها ومن خلالها لا صورته الواقعية. لذلك ضجت لوحات ذلك المعرض الاستثنائي بالألوان. قبض الفنان من خلال ذلك المعرض على تفاصيل جديدة هي جزء من علاقته بعناصر بناء اللوحة وبالأخص الخط والمساحات اللونية. هل استوحى الراشد حيوية خطوطه وألوانه من الرشاقة أم من الصهيل أم من الحركة؟
في كل أعماله يجمع الفنان بين مؤثرات مختلفة. هو يرى غير أنه يبذل كل جهده من أجل أن يفصل بين الموضوع وفكرته، هناك حيث تقع الصورة. وهناك يتحقق الرسام من قوة موقفه الجمالي.
من الصعب أن يصنف الراشد على مستوى أسلوبي جاهز. فالفنان لا ينتسب إلى مدرسة فنية بعينها. يمكن اعتباره تجريديا تعبيريا. ولكن ذلك اختزال ضعيف على مستوى دلالاته الفكرية والجمالية. فالراشد يجمع بين أساليب مختلفة بالرغم من أنه يظهر ميلا واضحا إلى التجريد.
لقد أدرك أن العلاقة بين الطبيعة والمجتمع بصيغته الأنثوية هي مصدر إلهامه. تلك مساحة سيتحقق من خلالها مفهوم جديد للبيئة. وهو ما أفرط الراشد في تفكيكه والوصول إلى نتائج غير متوقعة.
غير أنه حين يبالغ في حماسته اللونية يبدو أقرب إلى الانطباعيين الذين تركوا للتجريد إرثا واضحا في استلهام الطبيعة. ينظر الفنان إلى مرجعياته بإجلال. “كنت هناك” هذا ما يمكن أن يقوله الراشد دائما وهو يشير إلى البيئة التي عاش فيها والحكايات التي سمعها والصور التي تلذذ برؤيتها. إنه هناك دائما غير أن ذلك الـ”هناك” سيكون في لوحاته شيئا آخر دائما. وهي الشيء الذي سيكون من صنعه. سيعود الراشد إلى الحوش باعتباره ملاذا.