في الامتحان يكرم مقتدى أو يدان

إن لمقتدى الصدر، منذ تأسيس جيش المهدي وتياره الصدري في أوائل أيام الغزو الأميركي 2003، سياسة ثابتة تقوم أساسا على طلب شهادة أربعة رجال عدول رأوا الميل وهو يدخل المكحلة. وكان مُصرّا على ذلك عند تلقيه شكاوى من أحد الفاسدين، وخاصة حين يكون قياديا صدريا من أمثال حاكم الزاملي وبهاء الأعرجي، أو من حلفائه الذين يرضى عنهم.
أي أنه ينتظر من المسؤول الفاسد الذي ينوي أن يختلس أو أن يتلقى رشوة أن يستدعي المصورين الصحافيين ومراسلي محطات التلفزيون ومواقع الإنترنت ويطلب منهم تصويره وهو يختلس أو يرتشي. ودون ذلك فإن جميع الاتهامات التي تدور في الأوساط الشعبية والسياسية والإعلامية حول فساد أحد قادة التيار الصدري، أو أحد حلفائه، تظل اتهامات “باطلة” دون دليل، رغم علمه بالقاعدة التي تقول “لا دخان دون نار”.
ثم إن قبولَه بل ترحيبَه وابتهاجه بتعيين القيادي الصدري المقرب منه المدعو حاكم الزاملي نائبا أول لرئيس البرلمان، وفرحَه الغامر بتعيين حليفه محمد الحلبوسي رئيسا لمجلس نواب الشعب، دليل على أن تمسكه بمحاربة الفساد لا يخرج عن إطار المزاج الشخصي (القُح)، وليس مبدأ وطنيا عقائديا وسياسيا وأخلاقيا ثابتا يجعله يسل سيفه على كل فاسد، أي فاسد، سواء كان قريبا منه أو بعيدا، حليفا أو غير حليف، عدوا أو غير عدو.
◙ سيكون على العراقيين أن يعلموا أن المختلسين إخوة، وأن خدمَ المخابرات الأجنبية أقارب وحبايب، وأن الخلاص والانعتاق لن يتحققا بمقتدى، ولا بهوشيار، ولا بمسعود، وإنما بانتفاضة جهنمية عاصفة
وإصرارُه، فقط، على إبعاد غريمه نوري المالكي من طبخة الحكومة القادمة، رغم صواب هذا الإصرار، ليس سوى تصفية حساب شخصي لا علاقة فيها للوطن ولا الوطنية ومحاربة الفساد.
وفي آخر خُطبه الرنانة قال قبل أيام “ماضون في تشكيل حكومة أغلبية وطنية عراقية، والباب مفتوح أمام من نُحسن الظن بهم”. وهذا يعني أنه راض ومسرورٌ بالتحالف مع مسعود بارزاني، رغم كل تاريخه الممتلئ بالدكتاتورية والفساد والانتهازية وابتزاز الشعب العراقي ونهب نفطه وأمواله، علنا وبالدليل القاطع المكشوف.
ثم إن الذي يستحق أن نسأل عنه مقتدى هو أن بعض القياديين في تياره يسربون عبر وسائل الإعلام العربية والعراقية أن التيار ملتزم بالتصويت لمرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري لرئاسة الجمهورية، فهل هذا صحيح؟
وإن كان صحيحا هل يعتقد بأن هوشيار مثال الوطنية العراقية والنزاهة والاستقلال لكي يساعده في عهد حكومة الأغلبية الوطنية القادمة على محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، وهو أولهم وأكثرهم مباهاة بقصوره وأمواله التي لم يرثها عن جده أو أبيه؟
ثم هل إن مقتدى آخر من يعلم بأن هوشيار هو نفسه الذي صوت تياره الصدري، بقوة وإصرار، في العام 2006 على سحب الثقة منه وعلى طرده من وزارة المالية بعد التثبت من مخالفاته المالية والإدارية العديدة. وأبرز الملفات التي استجوب حولها زيباري هي صرف نحو ملياري دينار (مليون و800 ألف دولار) تذاكر سفر لعناصر حمايته، الذين يسكنون في أربيل، وصرف نحو 900 مليون دينار (800 ألف دولار) لترميم منزله في المنطقة الخضراء المحصنة، وصرف مبلغ ضخم لتأجير منزل لسكرتيرته الشخصية فضلا عن قروض كبيرة خارج السياقات القانونية لعدد من التجار.
وفي آخر خطبة له أكد مقتدى أنه يرفض “التبعية والعنف وخرقَ القانون في العراق”.
والحقيقة أن في العراق السليب لا يوجد واحدٌ من العراقيين النجباء لا يتمنى أن يكون صادقا في ثورته الجديدة، ويوفق، وأن يكون قد برئ، نهائيا، من تاريخه العدواني الطائفي الميليشياوي السابق، ومخلصا في تحرير قراره من التبعية، وفي توقفه عن خرق القانون، وجادا في محاربة الفساد.
ولكن هل يعقل أن يتحقق كل هذا الطموح الثقيل العظيم نحو الاستقلال ورفض الوصاية الأجنبية وحصر السلاح بيد الدولة ومحاسبة الفاسدين بحلفاء لا يحبون الاستقلال، ولا يقدرون عليه، ولا يحكمون إلا بقوة الوصاية الأجنبية، وجميعُهم من أصحاب السلاح المعتدي المنفلت، ومن كبار الفاسدين المفسدين، أصحاب الثروات المهربة إلى بنوك إيران وتركيا والأردن والإمارات وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة؟
ولأن مقتدى عوَّد الشعب العراقي على الخروج من البيت الشيعي غاضبا، وعلى عودته إليه راضيا مرضيا بعد شهر أو أسبوعين، فلا يَستبعد العراقيون أن تكون زوبعتُه الجديدة واحدة من زوابعه القديمة.
ففي عام 2018 أعاد قاسم سليماني عصفورَه النافر إلى عشه الأول، وجعلَه يتخلى، مرغما، عن بالوناته الدخانية المزعجة حول “شلع قلع” وحول “استقلالية” القرار الوطني العراقي.
وكان، يومها، تفجيرُ مستودع سلاحه في مدينة الصدر جرَّةَ الأذن النافعة التي أفهمته أن خروجه عن النص قد زاد عن حده، وأن الأوان قد آن لأن يعود إلى قواعده سالما، وأن يلتمَّ تحت العباءة الإيرانية، جنبا إلى جنب مع “الميليشيات الوقحة” التي يجاهر باستحالة تحالفه معها.
◙ إصرارُه، فقط، على إبعاد غريمه نوري المالكي من طبخة الحكومة القادمة، رغم صواب هذا الإصرار، ليس سوى تصفية حساب شخصي لا علاقة فيها للوطن ولا الوطنية ومحاربة الفساد
وقد تسببت، يومها، عودته المفاجئة إلى أحضان البيت الشيعي الإيراني الذي أصبح، اليوم، يسمى “الإطار التنسيقي” في الكثير من الحرج لحلفائه في ائتلاف “سائرون”، وفي مقدمتهم قادة الحزب الشيوعي العراقي ورئيس قائمة الوطنية إياد علاوي، وتنظيمات صغيرة أخرى جمَعَها مع الصدر وقوفُها الدائم معه في ساحة التحرير ببغداد للتظاهر ضد الفساد والفاسدين، وللدعوة إلى مدنيّة الدولة، ولإسقاط حكم المحاصصة الطائفي الذي ترى أنه المسؤول الأول عن الكوارث التي شهدها الوطن وأهله، من أول العام 2003 وحتى اليوم.
إن العودة القادمة لمقتدى إلى البيت الشيعي الموكل بتنفيذ الأجندة الإيرانية في العراق، وربما في المنطقة، متوقعة وغير مستغربة لدى المتخصصين بالشأن العراقي، ولدى من عَرفوا مقتدى من أول ظهوره في النجف بجريمة اغتيال عبدالمجيد الخوئي في أوائل أيام الغزو الأميركي للعراق.
ولأن الخيط الأبيض لم يتبين من الخيط الأسود من مخططات إيران العراقية، بعد، فإن الأيام القليلة القادمة هي المحك الذي سنختبر به صدق مقتدى، وصلابته، ووطنيته، وإصراره على احترام هيبة الدولة، وكرامة الشعب، وسلطة القانون.
فإنْ صوت نوابُه لهوشيار رئيسا للجمهورية فعلى الهيبة والكرامة السلام. وقياسا على ذلك فإن رئيس الوزراء الجديد لن يكون مختلفا عن هوشيار بشيء.
وعندها سيكون على العراقيين أن يعلموا أن المختلسين إخوة، وأن خدمَ المخابرات الأجنبية أقارب وحبايب، وأن الخلاص والانعتاق لن يتحققا بمقتدى، ولا بهوشيار، ولا بمسعود، وإنما بانتفاضة جهنمية عاصفة لا تبقي لكل هذه الرمم الميتة من أثر. ونحن في الانتظار.