مصطفى النافي.. تشكيلي مغربي يحوّل الفراغ إلى مادة واللون الأسود إلى فضاء

الفنان المغربي يرى أن التجربة محطة وليست هدفا والفنان مغامر عالمي.
الأحد 2022/01/23
الاشتغال على تيمات فلسفية

يندرج اسم الفنان التشكيلي المغربي مصطفى النافي ضمن قائمة الموجة الجديدة في الفن التشكيلي المعاصر، فقد زاوج بين التكوين الدراسي وانخراطه في القضايا الجمالية للفكر والثقافة، وهو كذلك مهتم وباحث في سيكولوجية رسوم الأطفال. هذه الاهتمامات المتعددة تطل عليها “العرب” في حوارها مع الفنان، الذي مثّل فرصة لإزاحة بعض الغموض عن عمله وفنه.

يتميز العمل التشكيلي لمصطفى النافي (مواليد 1954 بالقنيطرة)، بأنه لا يكتفي بالاشتغال بالمادة باعتبارها سطوحا ذات أحجام وأشكال، بل يشتغل أيضا بالفراغ في مفهومه الأعم الذي يتجاوز انعدام اللون والشكل والمحتوى ليدلّ على غياب المادة، إذ يحفز طاقة الفراغ ويسخر انحسار المادة حيث يحل اللامادي مثلما تحل الظلمة حيث ينحسر الضوء والعكس.

العرب: بعد غياب طويل تقيمون اليوم معرضا برواق مينضار MINE D’art بالدار البيضاء وسابقا أقمتم معرضا بمراكش تحت عنوان “فراغ متعدد” برواق دار الشريفة بمراكش، هل يمكن القول إن مصطفى النافي استطاع إقناع القائمين على هذه المعارض بجدوى الفن باعتباره حقا في الحياة، أطرح السؤال لأنكم منعتم في أوقات سابقة من عرض لوحاتكم واعتبرتم ذلك انتهاكا لهذا الحق؟

مصطفى النافي: كل الأجناس الإبداعية لا تحيا ولا تستمر وتتطور إلا بلقائها وتواصلها مع المتلقي، عن طريق العرض واللقاء لتقديم منجزاتها وإبداعاتها وهذا حق من حقوقها لإثبات ذواتها والانخراط والمساهمة في بناء المجتمع والرقي بالذوق العام والمحافظة على الموروث الثقافي والفني محليا وكونيا. أما بخصوص عودتي إلى الساحة التشكيلية المغربية بعد غياب دام أربع سنوات فهو غياب عن العرض محليا فقط، مع العلم أن العمل بمرسمي سواء بالمغرب أو أميركا لم يعرف أي توقف أو غياب. صحيح كان هناك إقصاء وليس منعا من طرف بعض القيمين على الشأن التشكيلي بوزارة الثقافة، لكن وبعد رجوعي إلى المغرب بعد فترة بأميركا، قمت بعرض جديد لأعمالي بقاعات خاصة وليست تابعة للوزارة.

كما أن التواصل ظل قائما مع النقاد والمهتمين بالفن التشكيلي المغربي وكانوا فعلا من أسباب عودتي إلى بلادي بعد عرضي بأميركا وتجربة البندقية بإيطاليا، حيث كانت تجربة فريدة بتحويل أعمالي المنجزة من أساند خشبية إلى زجاجية.

الفن فلسفة ومغامرة

مصطفى النافي: اهتمامي الرقي بالتشكيل المغربي ضمن الحداثة العالمية فقد أصبح متجاوزا أن نشتغل في دائرة إقليمية ضيقة

العرب: نبقى في هذا المستوى ونعود إلى صيف 2018 عندما اخترتم حرق مجموعة من لوحاتكم احتجاجا على ما أسميتموه الفوضى والمحسوبية وإقصاء طال كل الفنانين الجادين، هل ضياع ذلك المجهود الفني والنفسي والبدني والمادي الذي بذلتموه لأجل إبداع تلك اللوحات، يوازن الخطوة التي قمتم بها سواء على المستوى الإنساني كفعل احتجاجي وعلى المستوى الفني بحرمان المشهد التشكيلي من تلك اللوحات التي لن تتكرر أبدا؟

مصطفى النافي: إن عملية حرق بعض أعمالي احتجاجا على الأوضاع التي يمر منها الفن التشكيلي هي في الحقيقة أقصى عبارات الاحتجاج التي يمكن أن يقدم عليها فنان تشكيلي، وجاءت عملية الحرق بعد وقفتين احتجاجيتين أمام رواق باب الرواح وكذا وزارة الثقافة، أسبابها يعرفها كل المنتسبين إلى حقل التشكيل المغربي وأهمها الإقصاء الممنهج للفاعلين الجادين، وكذا إصدار القوانين التنظيمية لقانون الفنان.

ولقد قدمت كل المطالب وعددها 20 مطلبا لوزير الثقافة السابق لكن لا شيء تم تفعيله منها، وبالفعل فإن عملية الحرق كانت قاسية ومؤلمة لي بالدرجة الأولى ولأصدقائي النقاد والمتتبعين وكذلك التشكيليين، لأنه من الصعب أن يتخلى الفنان عن جزء أو قطعة منه.

 العرب: كيف تقيمون واقع التشكيل المغربي على المستوى الإبداعي وتنوع المدارس الفنية، وهل لا زلتم مقتنعين بأن هذا الفضاء الفني بالمغرب لا يزال يعاني من فوضى ومحسوبية وإقصاء تلك الفئة التي تعيش من وعلى التشكيل، وتعاني من غياب أبسط حقوقها في العيش الكريم؟ وماذا تقترحون لتجاوز هذه المعضلة؟

مصطفى النافي: عرف الفن التشكيلي المغربي مقارنة مع بداية الخمسينات من القرن الماضي، تطورا ملحوظا من حيث الكم والكيف، مقارنة بدول لها تاريخ في هذا الباب، فلقد تضاعف عدد الفنانات والفنانين التشكيليين عدة مرات كما تضاعفت معها مجموعة من الأساليب والتقنيات، رغم قلة المعاهد المتخصصة، كما أن النقد الجمالي والمهتمين والمجمّعين عرف تطورا ومواكبة جادة لهذه التجارب الهامة والجادة.

 لكن ومع غياب قوانين مؤطرة وغياب تشريعات ونصوص تنظيمية وكذا عدم انخراط وزارة الثقافة في مشروع تشكيلي جاد، تبقى الساحة التشكيلية معرضة لأنواع من الفوضى والتسلط من أشباه الفنانات والفنانين، وهذا يؤثر على تربية الذوق وتقديم أعمال بحثية جادة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ينعكس هذا الواقع سلبا على ضمان الحقوق المجاورة للفنان وتحدّ من حقه في الإبداع الجاد؛ لذلك وجب وبكل إلحاح انفتاح المسؤولين والوزارة الوصية على كل الإبداعات التي تعمل على الرفع من مستوى الفن ببلادنا، كما أن المناظرة الوطنية حول التشكيل المغربي أصبحت ملحة وضرورية: تشمل كل الفاعلين في الميدان من فنانات وفنانين ومجمعين وأرباب القاعات الخاصة.

العرب: نمر إلى تجربتك الفنية، هل يمكن القول إنّ التجريب والدراسة الأكاديمية أعطيا لوحاتك ذلك التميز إلى حد المغامرة التشكيلية خارج ما هو متداول بتحويل اللوحة إلى فضاء للبوح عن صراع التضاد بين الفراغ والامتلاء، وعلى أي أساس تعتمدون في تعميق التجريب التشكيلي عندكم؟

مصطفى النافي: أرى أن الدراسة الفنية رسمت لي الطريق الصحيح للعمل والبحث التشكيلي لكن مع مرور الوقت اتضح لي أن ما تلقيناه من أسس فنية سواء بالمعاهد أو المدارس المتخصصة يبقى غير كاف لتطوير أي تجربة في هذا المجال، بل وجب البحث المستمر وتجريب الخامات والتقنيات والتعرف على الفنون العالمية وزيارة المعارض…إلخ.

 لذلك كان اشتغالي مسلحا بمحيطي ومجاورة الأجناس الإبداعية الأخرى والإطلاع على الموروث الثقافي والتعرف على المواد والأدوات المختلفة وتجريبها، ثم الاشتغال على تيمات فلسفية خصوصا أنني اخترت طريق المغامرة بالتخلي على سند القماش لأشتغل على سند صلب (الخشب) وهو ما مكنني من تقنية الحرفي المغربي بطرق اشتغاله ومواده التقليدية، لكن بطرق حداثية وتيمات فلسفية.

التجريب والتجديد

Thumbnail

العرب: لوحاتك تعتمد على الفراغ كفضاء يحمل أكثر المعاني غموضا في لوحاتك التي يشملها اللون الأسود كلون وسلطة تتحكم في موضوعاتك، فإلى أي حدّ يعبر الفراغ والأسود وطبيعة المواد والخامات على غير المألوف تشكيليا وجماليا وإنسانيا وهل هي تنفيس عن قلق داخلي ورغبة في الانعتاق من تراكمات لن تعبر أنفاق الداخل إلا عبر اللون والفراغات؟

مصطفى النافي: إن الفراغ عموما عرف مجموعة من التأويلات عند فلاسفة كبار أمثال: هايدغر، وبارمينديس وأرسطو وغيرهم، لكن مع نيوتن ظهرت ملامح وقراءات وتأويلات أخرى، وتخلص الفراغ من حصره في التصور القديم ليصبح شيئا قابلا للقياس والتجربة أي أن الفراغ أصبح تلك المادة التي يُحدد ويتحدد بها.

ولهذا فإن بحثي التشكيلي انطلق من هنا وكنت مهووسا بتجسيده في عملي، حاولت تجسيد الفارغ – الفارغ والفارغ – المليء ومن ثم كانت صعوبة العمل، ومن جهة أخرى مواجهة المتلقي الذي لم يسبق له الخوض في تجارب مماثلة شكلا وموضوعا وخصوصا في بلد يحكمه نمط تشكيلي stéréotype.

 الأمر الثاني هو الاشتغال بالأسود الذي يطغى على العمل؛ والأسود وما يمثله في الثقافة الشعبية، إن الأسود في أعمالي هو ذلك العمق والفضاء لا منتهي الذي يشكل الفضاء والفراغ الخفي الذي لا تتيحه إلا المنحوتة، لذلك فللأسود دوران مختلفان ومتناسقان في آن واحد: عمق اللوحة والقبض على الفراغ، ومن جهة أخرى إبراز الألوان والنتوءات على قلتها.

الفن التشكيلي المغربي عرف مقارنة مع بداية الخمسينات من القرن الماضي، تطورا ملحوظا من حيث الكم والكيف

العرب: الصورة التشكيلية عندكم بكل ما تحتويه تقنيا وموضوعا هي تعبير عن تجربة معاصرة تجمع الرؤية البصرية مع الدلالة الفلسفية، السؤال هل نجحتم من خلال ذلك في خلخلة الأبعاد المختلفة للكائنات والأشياء والإنسان والهواجس التي تحملها داخليا من خلال لوحاتك؟

مصطفى النافي: أجيبك بكل صراحة أنه رغم أن التجربة الحالية تطلبت مني وقتا طويلا وسنوات من الاشتغال فهي تبقى في كل مرة مجرد محطة تحيلني إلى أخرى، وليست هدفا في حد ذاته، ففي كل الأجناس الإبداعية قد تكون محطات متميزة عن الأخرى لكن لا أصنفها بنجاحات لأن البحث لا يتوقف بل محكوم عليه بالاستمرار، صحيح أن عملي الحالي ينال إقبالا وإعجابا من الزوار والنقاد والمهتمين لكن في كل معرض أعتبره محطة.

العرب: وارتباطا بالسؤال السابق، تعملون على مزج ما هو تشكيلي بأبعاد فكرية وفلسفية كمحاولة لتجديد الرؤى والمقاربات الجمالية للتشكيل بالمغرب تفاديا للتكرار، فهل هي مجازفة يمكن معها تحقيق مشروعكم الفني وأيضا استقلال تشكيلي ذاتي؟

التكرار والاجترار لا يخدم لا الفنان ولا الفن سواء التشكيلي أو غيره من الفنون، فالمبدع يتجدد باستمرار قد يتحول المبدع إلى حرفي artiste artisant، وأرى أن البحث المستمر والتجديد هما السبيل الوحيد لمواكبة ما يجري من تطور وتحولات سريعة داخل البنيات المجتمعية خصوصا مجتمعاتنا العربية.

الفن عالمي

Thumbnail

العرب: لقد تم التعريف بالفن التشكيلي المغربي على مستوى الغرب والشرق على يد المؤسسين لهذا الفن، هل تتفق معي أن الفنان التشكيلي مصطفى النافي يقع ضمن الفئة التي تعيد تعريف الهوية الفنية والجمالية والحضارية المغربية، كمدرسة تريد الرقي بالذوق البصري للمجتمع، باعتماد نوع من الحداثة من خلال تقييم المفاهيم وطرح الأسئلة؟

مصطفى النافي: إن الفن التشكيلي المغربي كما هو متعارف عليه حاليا لا يتجاوز عمره 70 سنة، فهو في بداياته مقارنة مع بلدان أخرى لها تراكمات وتاريخ تشكيلي لمئات من السنين، صحيح قدم الغربيون الفن التشكيلي المغربي بالفلكلوري أو الساذج، لكن في منتصف الستينات من القرن الماضي ومع ظهور الطلائع الأولى من المتخرجين من المعاهد المغربية بدأت هذه الفئة تفرض نفسها وبالتالي تغيرت نظرة الغرب للتشكيل المغربي. بالنسبة إليّ وإلى الفنانين الباحثين الآخرين فنحن لا نسعى إلى خلق أسلوب أو مدرسة أو نمط فني معين، فكل من له همّ البحث التشكيلي فهو منخرط في التشكيل العالمي، على اعتبار أن الهوية التشكيلية أصبحت لا تقتصر ععلى ثقافة أو مجتمع.

للأسود دوران مختلفان ومتناسقان في آن واحد: عمق اللوحة والقبض على الفراغ، ومن جهة أخرى إبراز الألوان والنتوءات

شخصيا من بين اهتماماتي هو الرقي بالتشكيل المغربي ضمن الحداثة التي يعرفها العالم، لقد أصبح متجاوزا أن نشتغل في دائرة إقليمية ضيقة، البحث يجب أن يسير ما يعرفه العالم من تطورات ورؤى معاصرة؛ الفن الكوني إن صح التعبير.

العرب: من خلال تراكم تجربتكم في التعبير الفني تشكيليا، هل التوجه الفولكلوري باسم الهوية والثقافة الوطنية يمكن أن يخنق تعبيرات تبسط فكرتها وألوانها بعيدا عن أي تصنيف لا يخدم هذا الفن في بعده الحضاري والهوياتي، وهل تمكين الطلبة في الدراسة العليا في المجال الفني خصوصا في مسلك الماستر والدكتوراه قد يعزز الاستقلالية الذاتية والابتعاد عن التنميط، خصوصا وأنتم تعرفون جيدا أن النهوض بالفن التشكيلي لا بد له من مواكبة فلسفية وجمالية للطالب، وأيضا تعميق التصورات البصرية لهؤلاء بما ينتجه الصانع التقليدي والمهندس المعماري من أشكال وإبداعات؟

مصطفى النافي: كما سبقت الإشارة ظهور الفنون التشكيلية بالمغرب (الفنون التشكيلية على الحامل) l’art du chevalet هي حديثة العهد، لكن في السنوات الأخيرة عرفت الساحة التشكيلية تطورا ملحوظا، سواء من طرف الفنانين الذين استشعروا ضرورة مواكبة الفنون العالمية، وذلك عن طريق البحث وتطوير أساليب الاشتغال والتيمات، كما أن السنوات الأخيرة عرفت انفتاح الجامعة المغربية على الفنون التشكيلية بخلق مسالك وشعب فنية؛ مما سيمكن الطلبة من إنجاز بحوث ودراسات قد تساهم في تربية الذوق والرقي بالتشكيل بصفة عامة.

11