الجزائريون طيّبون، عباس ليس كذلك

قبل قليل احتفل الجزائريون بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، وعملوا له زفة، ووعدوه بالحسنى في علاقاته مع باقي الفصائل الفلسطينية، وأعطوه 100 مليون دولار ظنا منهم أنه مقاوم للاحتلال، وأن علاقاته مع إسرائيل هي علاقات مظلوم بظالم وليست علاقات زادٍ وملح وثريد.
أخذتهم طيبة القلب من ناحية القضية الفلسطينية، كما أخذتهم طيبة القلب به، قبل أن يكتشفوا أن الرجل غرر بهم، وأنه لم يكن كما كانوا يعتقدون.
في الظاهر، فعلوا ذلك لأنهم مساندون لكل “مقاوم”، ولكنهم، بحسب التوقيت والنظائر، فعلوه لأسباب تتعلق بالنكاية مع المغرب، الذي ظنوا أنه بعد إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، فإنه تخلى عن موقفه من القضية الفلسطينية. فزايدوا من حيث لا تصح المزايدة أصلا.
عباس هاجم المغرب، فظنوا أنه مفيد في النكايات. ولكن لم ينقض شهر على الزفة حتى اتضح أنه لا هذا صحيح ولا ذاك. لا نكايات عباس قابلة للصمود، ولا المغرب تخلى عن شبر من موقفه من القضية الفلسطينية، وبقيت طيبة القلب تلوم نفسها على انطباعات خاطئة وسياسات ما كان يفترض أن تكون النكايات أساسا لها.
كان يجدر بالموقف من القضية الفلسطينية أن يكون أرقى من ذلك، وأن يتحرر من الأغراض والاعتبارات غير ذات الصلة بدعم صمود الشعب الفلسطيني على أرضه.
نظريا على الأقل، فليست الجزائر قليلة خبرة بالناس. إنما ذاك الرجل ليس ممن يجدر حُسن الظن به. فهو أخذ من الجزائر 100 مليون دولار، ومد لسانه للمقاومة، بأن ذهب في زيارة شخصية لمنزل وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس ليحصل منه على 100 مليون شيكل. فتوازن الميزان بمعاييره. كما حصل على ما يشبه بطاقات التموين وعبور ليس له وحده، وإنما لـ600 “رجل أعمال فلسطيني” مقطوعةٌ سُرّتهم في إسرائيل، حتى إنها إذا ما أرادت أن تعاقبهم، سحبت منهم بطاقات العبور، فتُظلم الدنيا في أعينهم، ولا يعود مكانٌ آخر فيها صالح لـ”التجارة والأعمال”.
عباس هو نفسه عباس، قبل الذهاب إلى الجزائر وبعدها. باع أضاليله عليهم فصدقوه، ليس لأنهم لا يعرفونه، بل لأنهم لم يعثروا في صندوق البضائع البالية على شيء أفضل، يتناسب مع غاية النكايات ومقاصدها الهزيلة
الزيارة “الشخصية” التي أداها أبو الـ84 عاما إلى منزل غانتس قالت إن أرذل العمر يجر من الرذائل ما لا يصح معه حسن الظن. فهذا الرجل غلب العته عليه، فأدى الزيارة كتعبير عن الود، وهو لا يجهل الفرق بين زيارة مكتب حكومي وبين زيارة منزل.
الكعك والقهوة هما نفسيهما. ولكن للاسترخاء المنزلي معانيه. فالرجلان أرادا أن يتباسطا في المشاغل والهموم وأن يتجاذبا أطراف القضايا من أطرافها من دون التزامات ولا مواقف رسمية، كصديقين حميمين، ليست بينهما عداوة، ولا دماء تُسفك كل يوم، ولا اعتداءات يشنها مستوطنون على أهل الرجل وأقاربه وجيرانه وفصائله.
أما اكتشاف الجزائر بأن القضية الفلسطينية صارت تصلح للاستخدام كنكاية، فقد وجهت إلى المغرب سهما طائشا، ليس في محاولة تشويه موقفه من القضية الفلسطينية وحدها، وإنما في فهم حق المغرب كدولة ذات سيادة بأن تفعل ما يتلاءم مع مصالحها، خارج المزايدات، وبعيدا عن الحاجة إليها أصلا.
المغرب ليس مضطرا لتزكية نفسه بـ100 مليون دولار ولا اكتساب “الطهارة القومية” من محمود عباس، ولا الحصول منه على شهادة حسن سلوك، لاسيما وأن موقفه من عدالة القضية الفلسطينية أصلب، وأكثر استقامة مع نفسه، من موقف عباس.
وهو إذ يتصرف كرجل ذليل، فإنه ليس ممن يملكون الحق في أن يحددوا للآخرين سياساتهم وخياراتهم ومصالحهم.
لم تكن القضية الفلسطينية، قضية مزايدات سياسية، إلا عندما تولى عباس قيادة السلطة. هو الذي صنع “سوق” البيع والشراء فيها. فتحولت من قضية قومية إلى قضية نكايات يمارسها هذا ضد ذاك. يذهب إلى إيران، إذا أراد أن يُغضب السعودية، وإلى قطر إذا أراد أن يُغضب الإمارات، وإلى الجزائر إذا أراد أن يُغضب المغرب، ولكنه في جميع الأحوال يتطلع أن تأتيه أي دعوة من إسرائيل لتقديم آيات التنصل من “المقاومة”، وآيات الولاء للاتفاقات الأمنية. سُرّته مقطوعة هناك. وهو يعرف ماذا يفعل. إنه يعرض بضاعة بأبخس أثمانها. فيشتريها منه الذين يشعرون أنها تنفعهم فيكسبون منها شعارات وغطاء قوميا إلى حين. وذلك حتى يفضحهم هو بأفعاله.
سوى أن هذه اللعبة بارت. وسبب بوارها عباس نفسه. فالمسار الذي اختطه بلغ نهايته. ولم يعد هناك سوق. والجزائر هي الزبون الأخير.
زيارته منزل غانتس كشفت كم أنه ذليل، بل كم أنه لا يمثل قضية شعبه، وكيف أنه سحقها وحولها إلى قضية خدمات أمنية مقابل بطاقات دخول أو تموين.
ما كان بوسع أي رئيس بلدية فلسطيني، أيام سلطة الرئيس الراحل ياسر عرفات، أن يتصرف على نحو ما يفعل عباس، حتى ولو ظلت جماعته تبيع المهازل الكلامية عن “المقاومة”.
الجزائريون يستطيعون الآن أن ينظروا في طيبة قلوبهم. وأن يأسفوا على أنهم أعطوا هذا الرجل ما أعطوه، ظنا منهم أنه "مقاوم" قبل أن يقدم لهم الدليل على أنه ضابط أمن يعمل في صالح إسرائيل
لا تعرف كيف جاز لواحد من وزراء عباس أن يقول عن هذه الزيارة إنها “تحدّ كبير وهي الفرصة الأخيرة قبل الانفجار والدخول في طريق مسدود، وهو محاولة جدية جريئة لفتح مسار سياسي يرتكز على الشرعية الدولية.. الخ”.
لا تحتاج جرأة على بيع الكلام الكبير عندما يكون فارغا إلى أقصى حد. ولكنك تحتاج إلى وقاحة، وإلى استعداد لانهائي للكذب وممارسة الأضاليل، من أجل أن تقدم تفسيرا آخر للذل والعته وفقدان البوصلة.
ولم يستغرق الأمر دقائق من بعد ذلك، حتى قالت الإذاعة الإسرائيلية “إن عباس أكد لغانتس استمرار أجهزة الأمن الفلسطينية في ملاحقة المقاومة في جنين والضفة. كما أكد أنه لا يمكن التنازل عن التنسيق الأمني تحت أي ظرف، وأن سلطته تسيطر على الوضع”.
أما “المسار السياسي”، فإن الحديث فيه كان يتعلق بما قيل إنه “محاولة فتح أفق” له. وأشك أن هذا صحيح من الأساس. فكل ما أراده غانتس هو أن يتيقن، من عباس، أن اعتداءات المستوطنين ضد الفلسطينيين لن تتحول إلى انتفاضة جديدة. وأعطاه الرشوة التي تضمن له شراء الولاء. هذا كل ما في الأمر.
بيّاعو الكلام الوقح لا يملكون إلا الكذب، لأن رئيسهم بلغ نهاية الطريق، حتى لم يبق لديهم ما يخادعون به أحدا، ولا حتى أنفسهم.
بعض الفلسطينيين يستخسر في الرئيس عباس الرصاصة، لكي لا يتحول إلى شهيد عن غير وجه حق. ولعل رب العالمين نفسه يستخسر أن يرسل له عزرائيل لكي يدفع به إلى أرذل ما يمكن أن ينتهي إليه، عاجزا حتى عن بيع الشعارات الفارغة.
الجزائريون يستطيعون الآن أن ينظروا في طيبة قلوبهم. وأن يأسفوا على أنهم أعطوا هذا الرجل ما أعطوه، ظنا منهم أنه “مقاوم” قبل أن يقدم لهم الدليل على أنه ضابط أمن يعمل في صالح إسرائيل. وأنه آخر مَنْ يمكن التلويح به على سبيل النكاية مع المغرب. رايتهم فيه مهلهلة، لأن رايته هو نفسه مع قضية شعبه قد تمرغت بالوحل.
أفهل كان الجزائريون قليلي خبرة به من قبل؟
عباس هو نفسه عباس، قبل الذهاب إلى الجزائر وبعدها. باع أضاليله عليهم فصدقوه، ليس لأنهم لا يعرفونه، بل لأنهم لم يعثروا في صندوق البضائع البالية على شيء أفضل، يتناسب مع غاية النكايات ومقاصدها الهزيلة.
لعلهم يكتشفون الآن، أن لا هذا صحيح ولا ذاك.