باريس ورساموها

ما من مدينة في العالم رُسمت بشغف عشاقها مثل باريس. رسمها زائروها وأبناؤها بالشوق نفسه كما لو أنها تفاجئ كل من يراها بجمال داخلي لم يتم التعرف عليه من قبل.
لقد قصدها رسامو المدن ليتعلّموا كيف يتمّ التسلل إلى سحر مدينة تعيش لحظة اكتشافها مع كل نظرة تُلقى عليها. إنها من المدن القليلة التي تكتسب جمالا جديدا من دهشة الآخرين وهم يسعون لتوثيق لحظات العيش فيها.
وفي تاريخ الرسم تركت باريس صورا خالدة منها من خلال اللوحات التي رسمها الانطباعيون لشوارعها وحاناتها وحدائقها وكنائسها ومشاهد الناس الاحتفالية.
كانت باريس دائما مناسبة اكتشف فيها الرسامون قدرتهم على التلذّذ برسم مدينة تتغيّر كل لحظة. كانت باريس ولا تزال مدينة أخرى. المدينة التي يحيل المشي في دروبها إلى رسوم رينوار ومانيه وديغا ومونيه وفنسنت وغوغان ولوتريك. لا أحد في إمكانه أن يمرّ بالقرب من ملهى الطاحونة الحمراء، إلاّ ويمتلئ رأسه برقة رسوم تولوز لوتريك.
في مقاهي مونمارتر لا تزال أشباح الرسامين تحتل المقاعد وهي تتأمل جمهورا يتوق إلى أن يحل معه ذكرى من ذلك المكان العريق الذي عاش فيه أعظم الرسامين، ولن تكون تلك الذكرى سوى ورقة تحمل توقيع رسام مجهول، ميزته الوحيدة أنه يرسم في هواء باريس.
ولهذا يمكن القول إن نصف باريس إنما يُقيم في خيال رساميها. حتى ليظن مَن يغادرها أنه قضى أياما في حلم شخصي ولم تكن باريس إلاّ خلفية لذلك الحلم.
باريس مدينة للذكرى يحمل زائرها معه صورا تجمع بين الواقع وخيال الرسامين الذين ابتكروا مدينة تصلح مادة لمتعة خيالية، وبالقوة نفسها هي مدينة للعيش المنفتح على كل احتمالات الجمال.
كانت يوما ما عاصمة للفنون. اليوم سبقتها نيويورك وبرلين غير أنها لم تخسر موقعها في الإلهام. مدينة لا تزال ملهمة في كل ما يظهر منها من مشاهد.
يغمض مَن يزورها عينيه على جزء منها ليقنع نفسه بأنه التقط شيئا من سحرها. وهي تظل مقيمة في متاهة أسرارها. باريس مدينة نموذجية اكتسبت من الرسم شيئا من سحرها الذي ألهم الرسامين نوعا متمرّدا من الجمال.