العمارة العربية يتحكم فيها جسدان شخصيان واحد بارز وآخر مستتر

الكتاب يطرح أسئلة من طبيعة سوسيولوجية هامة، خاصة في العالم العربي حيث الذاتي ثم العائلي والقبلي.
السبت 2021/12/18
العمارة ليست مجرد مساكن (لوحة للفنان نجيب بالخوجة)

عمان – العمارة في عمقها فنّ يخفي بين طياته ثقافة شعب، ولذا نجد من الضروري البحث في المعمار عن العناصر الثقافية التي تكوّنه، ويمكن لكل معمار أن يحمل أكثر من ثقافة واحدة، إذ يعتبر كالكتب المفتوحة التي تروي تواريخ الشعوب ورؤاها الجمالية والفكرية والاجتماعية وحتى الدينية والروحية وغيرها.

وفي هذا الإطار يتناول الشاعر والباحث العراقي شاكر لعيبي في كتابه الجديد “العمارة الذكورية – فن العمارة والمعايير الاجتماعية والأخلاقية في العالم العربي” المعمار العربي في قراءة ثقافية من زوايا مختلفة، تعيد تشكيل عناصر المدينة العربية وفق منظور جمالي وفكري واجتماعي وثقافي.

ويلفت لعيبي إلى أن وظيفة العمارة الأساسية كانت واضحة على الدوام للجمهور العريض: السكن. لكن بين الوظيفة المعمارية التي هي بداهة وبين منظومة المعايير الخلقية التي تشتغل العمارة بين ظهرانيها ثمة فسحة للتأمل، مضيفا “لسنا هنا في مقام الوظيفة لكن في سلّم معياري، بل أخلاقي، للعمارة”.

ويبين الكاتب أن جماليات العمارة نفسها تتكيف، على ما يبدو، مع طريقة استخدام الكائن الآدمي للمساحات والفراغات، بعبارة أخرى مع غياب أو حضور جسد الساكن في فضاء مخصوص للسكن، بكل ما ينطوي عليه هذا الجسد من الحشمة أو التبذّل.

يقول “ثمة جسدان شخصيان فاعلان في الفضاء المعماري: جسد شخصي عضوي (فيزيقي) بارز للعيان، وجسد اجتماعي مستتر. جسدان متداخلان من دون شك ومعقدان”.

ويتابع “لكي لا نبدو موغلين في التأمل النظري نشير إلى أن سين -أو صاد- من القاطنين في أيما فضاء معماري هو ذاتٌ فريدة، وفي الوقت نفسه هو شخص اجتماعي يراعي اعتبارات عامة مثل الجيرة والتفاعل الاجتماعي في هذا الفضاء المشترك”.

ولفهم الهيمنة الذكورية على المعمار العربي نتبين من خلال تلاحق البحوث السابقة كيف تمتلك الذكورة مُتخيّلا جمعيّا عن الجسد المؤنث وأشكاله، ويظهر ذلك بوضوح في الأشكال الفنيّة والثقافيّة المختلفة، لكنّه متخفّ في تكوين العالم الماديّ؛ فالأبنية والطرق وتصميمها وتوزعها وكيفية الحركة ضمنها تسعى لترسيخ هذا المتخيّل وجعله يتسلل إلى اللاوعي، ليكون العالم بمساحاته الخاصة والعامة أشبه بخشبة لاستعراض الجسد المؤنث وفرض أشكال محددة لظهوره.

وتحضر أشدّ أشكال هذا المتخيّل في التصميمات والعمارة الحداثيّة، التي تعكس الهيمنة الذكورية على العالم في سبيل تحويله إلى تكوين ماديّ – صناعيّ ذي وظائف محددة، تخدم دورا اجتماعيا على حساب آخر؛ فالوظيفية التي يتبناها التصميم تميل نحو جعل الرجل ذا أثر في العالم وترك المرأة كزينة ضمنه.

Thumbnail

لكن لعيبي يقارب المسألة أبعد من تمظهرها الشكلي أو الاقتصادي بالرجوع إلى منشئها، مفككا الدوافع النفسية والرؤى الجمالية والتربية الاجتماعية والثقافة المشتركة التي تدفع إلى ترسيخ النزعة الذكورية في المعمار العربي، الذي يصل تأثيره حتى إلى الجوانب الأخلاقية، حيث المعمار جزء لا يتجزأ من النظم الأخلاقية العربية. وهذا يبدو جليا سواء في البيوت السكنية أو في المباني المشتركة الدينية مثل المساجد والمقامات والمباني الحكومية مثل مقرات الوزارات أو الإدارات، وحتى المدارس القديمة، وغيرها من عناصر المعمار العربي الذي يتنوع في تماه مع بيئته، وتتعدد معانيه في اختلافات شكلية من المحيط إلى الخليج.

لكن هذه الاختلافات تخفي في عمقها توحدا في العمق حول الوظيفة الأخلاقية للمعمار والنزعة الذكورية التي تميزه، والتي مازالت تتسيد المشهد المعماري حتى الحديث والمعاصر، الذي وإن كان يبدو أقل تواصلا مع ماضيه فإنه يحمل تلك النزعات الدفينة في عمقه إذ يصدر عن مفاهيم مغروسة في اللاوعي الذي تتسلل من خلاله الصور من العالم إلى المخيّلة، ثم تتجلى في الشكل المادي للعالم بأدق تفاصيله.

ويأتي الكتاب، الصادر حديثًا عن دار خطوط وظلال مع غلاف يجمل الرؤية البصرية لمدير الدار الفنان محمد العامري، بين الذاتي والمشترك، وفي تلك المساحة يطرح لعيبي أسئلة من طبيعة سوسيولوجية ذات شأن، خاصة في العالم العربي حيث الذاتي ثم العائلي والقبلي ترتقي كلها أحياناً إلى مصاف القانون العرفي الصارم الذي يحكم مجمل سلوك الأفراد.

ويقر الباحث بأن المشترك يعبر بينهما عن ضرورة مقاسمة الآخرين الفضاء الإنساني العريض، وهذا أحد قوانين الاجتماع البشري المعروفة منذ إخوان الصفا ومن بعدهم ابن خلدون.

ويذهب إلى أن مشاطرة الفضاء السكني والمعماري بمعناه الضيق (في بناية حديثة مثلاً) صارت اليوم قاعدة عامة أكثر من أي وقت مضى، وذلك بحكم الدخول الجماعي الإجباري في ما نسميه عادةً بـ”عالم الحداثة” بأشكالها واستخداماتها واستعاراتها: العمارة الحديثة وقيادة السيارة واستخدام الإنترنت وغير ذلك.

13