قيس سعيد يستأنف الثورة بإحياء إرهاصاتها الأولى

بقرار رسمي تحولت ذكرى اشتعال النار في جسد البوعزيزي والتي يعتبرها الرئيس قيس سعيد عنوانا للانفجار الثوري وفق تعبيره إلى عيد للثورة التونسية يحظى فيه الموظفون والعمال والطلاب بإجازة سنوية.
الثلاثاء 2021/12/14
التاريخ الحقيقي لثورة تونس هو يوم السابع عشر من ديسمبر 2010

يحيي التونسيون يوم السابع عشر من ديسمبر الجاري الذكرى الحادية عشرة لإقدام طارق (وليس محمد) البوعزيزي على إضرام النار في جسده بمسقط رأسه مدينة سيدي بوزيد، وهو الحدث الذي انطلقت بعده احتجاجات اجتماعية تم تصنيفها على أنها إرهاصات انتفاضة شعبية سرعان ما اتسعت لتشمل بعض المناطق المجاورة، ثم امتدت إلى المدن الكبرى ومنها العاصمة، وصولا إلى الإعلان عن مغادرة رئيس الجمهورية آنذاك زين العابدين بن علي البلاد والإطاحة بنظامه.

بقرار رسمي، تحولت ذكرى اشتعال النار في جسد البوعزيزي والتي يعتبرها الرئيس قيس سعيد عنوانا للانفجار الثوري، وفق تعبيره، إلى عيد للثورة التونسية يحظى فيه الموظفون والعمال والطلاب بإجازة سنوية، ويتم الإعلان خلاله عن قرارات مهمة، بدلا من الرابع عشر من يناير الذي لن يكون لإحيائه معنى خلال الشهر القادم، والذي يبدو أن هناك نية لاستبعاده من ذاكرة التونسيين، كونه يمثّل السطو على الثورة، والتعبير للرئيس سعيد كذلك.

أول من يمكن التوقف عنده في هذا الخضمّ، أن الرئيس اختار أن يكون الاحتفال بذكرى البوعزيزي الذي شكّلت حادثة إقدامه على الانتحار منطلقا لاحتجاجات عفوية اندلعت في اليوم الموالي بسيدي بوزيد، وقادها شباب غير مسيّس، لا يخضع لأيّ قيادة تنظيمية، ولا يحمل أيّ مشروع سياسي أو عقائدي، وإنما هدفه الوحيد هو الحصول على وظائف وتحسين ظروفه الاجتماعية، بينما تقرر تهميش ذكرى الرابع عشر من يناير، بما تعنيه من رمزية لدور النخب السياسية والنقابات العمالية والقوى الوطنية بمختلف اتجاهاتها التي ابتكرت شعار “الشعب يريد” وكان لها القول الفصل في الإطاحة بالنظام.

◄ الرئيس سعيد كان له رأي مختلف عما رأته النخب الحاكمة خلال السنوات الماضية، فقرر تغيير موعد عيد الثورة ونقله إلى السابع عشر من ديسمبر

وبالتالي فإن الرئيس سعيد، يسعى إلى تغيير وجهة التاريخ وفقا لقناعاته الشخصية التي طالما أعرب عنها في العديد من المناسبات، ومن ذلك ما ورد على لسانه خلال كلمته في جمع من أنصاره بسيدي بوزيد في أغسطس الماضي، عندما اعتبر أن التاريخ الحقيقي لثورة تونس هو يوم السابع عشر من ديسمبر 2010، اليوم الذي انطلقت فيه الثورة من ولاية سيدي بوزيد، لأن الرابع عشر من يناير، هو وفق تقديره “تاريخ إجهاض الثورة”، مستطردا أن التدابير الاستثنائية التي اتخذها في الخامس والعشرين من يوليو الماضي هي “حركة ثورية تصحيحية للانفجار الثوري الذي انطلق من سيدي بوزيد”، وبذلك يعيد عجلة الأيام إلى الوراء، في قفزة لا على أحداث أحد عشر عاما خلت، وإنما على التجربة والفعاليات والشخوص والأفكار والمعاني والرموز، بما يعني القطيعة معها، وإعادة تركيب الأحداث وفق سيناريو مختلف تماما، يتأسس على ربط ما حدث يوم السابع عشر من ديسمبر 2010 بما حدث في الخامس والعشرين من يوليو 2021، ويعطي للرئيس سعيد شرعية ترجمة ما يصفها بلحظة الانفجار الثوري لقيادة المسار الذي يمكن أن يرى فيه تحولا حاسما في اتجاه تنفيذ مقولة “الشعب يريد” التي لا تزال تبحث عن تفسير سليم ومنطقي لها.

يمكن فهم قرار الرئيس بإحياء ذكرى السابع عشر من ديسمبر 2010 كعيد للثورة، على أنه محاولة للإيحاء بإعادة الاعتبار لفكرة الثورة ليس على نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، وإنما على الدولة الوطنية التونسية التي تأسست بعد استقلال البلاد في العشرين من مارس 1956، رغم أن قيس سعيد لم يكن معروفا بالمعارضة، ولا بالقطيعة مع مؤسسات الدولة، كما أن البوعزيزي عندما أضرم النار في جسده لم يكن يرفع شعارات المقاومة، ولم يناد لا بالحرية ولا بالديمقراطية الشعبية، والشباب الذي خرج إلى الشوارع لم يكن يعمل على إسقاط النظام، وإنما فكرة التغيير السياسي جاءت من قبل النخب السياسية التي التحقت بالمسار الاحتجاجي، ووجدت في الإعلام الخارجي تبنيا وتحريضا، مع تحول الحالة التونسية آنذاك إلى رهان على جعلها منطلقا افتراضيا لما سمّي بخطة التغيير الديمقراطي اللاعنفي، التي كانت قوى أجنبية تعمل على تنفيذها وفق روزنامة تم الإعداد لها من قبل مراكز متخصصة في قطر والولايات المتحدة ودول أوروبا الشرقية.

لا شك أن ما حدث في تونس في الرابع عشر من يناير 2011 لا يزال لغزا محيرا بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من التونسيين، رغم أن كل طرف حاول أن يفسّره وفق أهوائه، فهناك من يعتبره انتصارا لثورة شعب على الدكتاتورية، وهناك من يرى فيه انقلابا عسكريا تم تنفيذه بقرار خارجي، وهناك من يرى فيه نتيجة لخيانة من داخل الدائرة المقربة من بن علي، وهناك من يعتبر أن الرئيس هرب، ومن يقول إنه تم تهريبه إلى الخارج بالقوة ضمن خطة دولية، ولكن المؤكد أن أغلبية من يتحركون في المشهد السياسي الحالي بمن فيهم الرئيس لم يكونوا على صلة بما جرى آنذاك، وهذا ما ينطبق على من حكموا البلاد خلال السنوات الماضية، بمن في ذلك حركة النهضة الإخوانية التي تحاول احتكار المسار الثوري دون أن يكون لها دورا فيه.

وإذا كان لا بد من حديث عن ثورة حقيقية جرت بداية من السابع عشر من ديسمبر 2011، فليس من المعقول ربطها بلحظة انتحار البوعزيزي، لأن الزخم الحقيقي ليس في الحراك العفوي، وإنما في تحوله إلى انتفاضة عارمة تدخلت فيها القوى النقابية على صعيد واسع وخاصة في صفاقس والعاصمة، وأدت إلى تحقيق أهدافها بأقل ما يمكن من الخسائر، وفي إطار استمرارية الدولة، وعدم التورط في الانقلاب على مؤسساتها السيادية.

◄ الرئيس سعيد، يسعى إلى تغيير وجهة التاريخ وفقا لقناعاته الشخصية التي طالما أعرب عنها في العديد من المناسبات

لقد كان الجدل منذ البداية حول التاريخ الحقيقي للثورة، هل هو السابع عشر من ديسمبر أم الرابع عشر من يناير؟ وفي دستور 2014، أطلق عليها اسم ثورة السابع عشر من ديسمبر/الرابع عشر من يناير في محاولة للتوفيق بين الطرفين. ومنذ العام الأول تم اعتبار يوم الرابع عشر من يناير عيدا وطنيا وإجازة خالصة الأجر. لكن الرئيس سعيد كان له رأي مختلف عما رأته النخب الحاكمة خلال السنوات الماضية، فقرر تغيير موعد عيد الثورة ونقله إلى السابع عشر من ديسمبر، وذلك في توجه صريح منه لوضع بصمته ليس على جدول الأعياد والمناسبات الوطنية، ولكن على القراءة الشاملة لرمزيات الأحداث الفاصلة التي عرفتها البلاد، وعلى ما يمكن أن يشكّل تأثيرا ثقافيا في الوجدان الشعبي والوطني العام، انطلاقا من أنه يحمل تصورا مختلفا للإطار العام للدولة والمجتمع، ويعتبر نفسه قادرا على قيادة ما يعتبرها الثورة الحقيقية باستئناف إرهاصاتها من السابع عشر من ديسمبر، ودون السماح بإجهاضها في الرابع عشر من يناير، والبدء في إحياء جذوتها في الخامس والعشرين من يوليو، على أن ننتظر ما ستفرزه من تحولات بالغة الأهمية خلال الفترة القادمة.

وبقطع النظر عن جملة الخلافات والاختلافات، فإن كل المؤشرات تؤكد أن الرئيس قيس سعيد يطمح بالفعل إلى قيادة ثورته الخاصة، والتي ربما كان يتطلع إليها منذ عقود كحلم يداعب خياله دون الإفصاح عنه في مشروع سياسي أو حزبي معلن، وقد يكون استوحى جملة أبعادها وأهدافها من اهتماماته الواسعة من التاريخ ومن تجارب الشعوب الأخرى، ولعل خطبه وكلماته وطريقته في تبليغ مواقفه ورسائله تشير بالفعل إلى نزعته الثورية وقناعته بأنه لا يريد أن يكون رئيس دولة بقدر ما يطمح إلى أن يكون قائد ثورة يمتلك الأدوات الكافية، وعلى رأسها الشرعية الشعبية التي تساعده على إعادة تشكيل الدولة والمجتمع وفق رؤيته المغايرة لما عرفته تونس منذ استقلالها، والمتجاوزة لما طرحه الفاعلون السياسيون من أحزاب وتيارات وشخصيات من مشاريع وبدائل خلال السنوات العشر الماضية.

8