سمر مغربل فنانة تعيد بناء مدينتها بروح غاضبة

بيروت الممحوّة بفعل الحرب الأهلية والإعمار تستحضر الفنانة جزءا منها كرسالة عاطفية مستفزة قد تؤدي دور جرس التحذير من يوم قد لا تكون فيه بيروت موجودة.
الأحد 2021/12/05
فنانة تثق بالفن بشكل مطلق

“ما في غير الفن” تقولها بالدارجة اللبنانية وهي جملة تشير إلى غياب الحلول السياسية. ولأن سمر مغربل تثق بالفن بشكل مطلق فإنها استعانت به على الفوضى بطريقة تشبه الشفاء من المعاناة لكي تتخطى الوصف في اتجاه الألم الذي تصعب عملية الاتصال المباشر به.

لم يكن الفن بالنسبة إليها وسيطا وهي تتحدى الأحداث التي يغلب عليها الطابع السياسي في بلد مثل لبنان. فالأحداث التي لم تغب عن عالمها كانت هي الأخرى تخلق حيزها الجمالي الذي لم يكن بالضرورة مرحا؛ كما لو أنها في حرب مفتوحة في اتجاهين. مادتها التي تقول عنها “يصعب التحكم بالطين كونه مادة لزجة” وتلك الفوضى المتفجرة التي تمتد من الآثار حتى السيارات المفخخة.

سيكون عليها في كل مرة ترغب فيها في أن يكون لها صوت في تلك المسيرات الجنائزية التي تجتاز الوضع البشري أن تمنع نفسها من الصراخ المباشر لتلجأ إلى ما بعد المشهد أو تحته؛ فكرة تنطوي على رغبة في عدم إفراغ الألم من فلسفته الغامضة.

غزل المدينة التي تختفي

◄ الفن بالنسبة إليها ليس وسيطا، وهي تتحدى الأحداث التي يغلب عليها الطابع السياسي في بلد مثل لبنان. فالأحداث التي لم تغب عن عالمها كانت هي الأخرى تخلق حيزها الجمالي الذي لم يكن بالضرورة مرحا

مغربل التي قادها غزل المدينة التي تختفي إلى الغوص عميقا في آثارها كانت في الوقت نفسه تفكر في مغزى أن يعوض الإنسان البيروتي كل هزائمه بانتصار جمالي لن يكون نوعا من الوهم. لقد ذهبت المدينة القديمة تحت ركام تصويري من البنايات الحديثة غير أن الروح لا تزال ممكنة. وهو ما نجحت في الوصول إليه في معرضها “فن النصر” عام 2021.

ما تلاشى، ما اختفى، ما ذهب إلى الهامش يمكن استعادته تجريديا عن طريق المجاز. سيكون المعنى حاضرا بطريقة صادمة غير أنه لا يشكل عنصرا ضاغطا على جماليات القطعة الخزفية. أليس الخزف فنا تجريديا؟ في كل الأحوال ذلك السؤال لا يشغل مغربل فهي تعمل في مجال النحت الخزفي وهو فن آخر، فن يجمع بين أفكار النحت وتقنيات الخزف.

عاصفة الأفكار

“الحنين إلى بيروت” ليس ذلك عنوانا لأحد معارضها ولكنه يشكل الهاجس الرئيس لعالمها؛ ذلك العالم الذي هو خزانة للمتعة والاحتجاج والتفاؤل والألم والضحكات والدموع والانهيار والمقاومة. بيروت هي كل ذلك وأكثر. أما عالم سمر مغربل فإنه يتسع لكل التناقضات حين يظل وفيا لجماليات هي ليست من النوع الذي يسر غير أنها تمتلك القدرة على أن تجعله مدهشًا.  

لقد عبرت مغربل بهدوء إلى جماليات ما بعد الحداثة التي تمثل اختبارا صعبا. فليس من اليسير أن يفكر المرء بطريقة معاصرة وفي الوقت نفسه يحتفظ بميل إلى الجمال. ذلك ما يمكن أن يسميه الآخرون بالجمال القهري في ظل كفاءة أعمال الفنانة على مستوى القدرة على التماهي مع شروط الفن المفاهيمي. كل عمل من أعمال الفنانة يطرح مفهوما غير أنه في الوقت نفسه يقف أمامنا باعتباره قطعة فنية جميلة.

ولدت في بيروت عام 1958. درست الخزف على يد الفنانة دورثي سلهب كاظمي قبل أن تلتحق بجامعة غولد سمث بلندن لدراسة الخزف. بعدها عادت إلى بيروت لتصبح أستاذة للخزف في الجامعة. عام 2007 حازت جائزة معرض الخريف في متحف سرسق.

كان العرض الذي أهلها لنيل تلك الجائزة مفصليا في سيرتها الفنية. كان هناك نوع من التحدي للطين الذي هو مادة لزجة ولينة توحي في كل درجة من درجاتها بالسيولة لتنتقل بها إلى صلابة الموقف الجارح حيث كان المطلوب أن تصور مشهد السيارات المفخخة التي قتلت رفيق الحريري وسواه من السياسيين والكتاب بسبب مواقفهم المدافعة عن استقلال لبنان وسيادته. وهنا كان التحدي الثاني الذي يتمثل في معالجة موضوع سياسي مباشر يجب أن يتحول إلى مادة جمالية، أو هو ما تفترضه الفنانة التي تهب فنها استقلالية لافتة بغض النظر عن الموضوع الذي تعالجه.

أخذتها السياسة من عالمها التجريدي الصافي غير أنها حرصت على أن تنأى بفنها عن الإنشائية المباشرة لتوغل في صناعة الرموز التي تمارس من خلالها إحياء عالم كان مكتفيا بنفسه لو لم تخطفه المؤثرات الخارجية ومنها السياسة بكل تجلياتها. مضطرة حاولت الفنانة أن تهذب وحش السياسة وهي تمارس صراخها الوطني.

عام 2015 أقامت مغربل معرضا في بيروت بعنوان “من دون آثار”. كان عرضا حزينا هو بمثابة مرثية لبيروت التاريخية التي هي في طريقها إلى الزوال. بعد خمس سنوات وقع انفجار مرفأ بيروت ليزول الجزء المتبقي من المدينة التي عاشت عصورا متباينة على مستوى لغتها المعمارية.

بيروت التي انمحت بفعل الحرب الأهلية والإعمار استحضرت مغربل جزءا منها باعتباره رسالة عاطفية مستفزة قد تؤدي دور جرس التحذير من يوم قد لا تكون فيه بيروت موجودة؛ بيروت العصور التي تراكم بعضها على البعض الآخر. وكان ذلك التحذير أشبه بنبوءة.

نحتت مغربل بيوت بيروت التاريخية. مصغرات مرت عليها أصابعها بحذر لئلا تترك عليها أثرا. بيوت حية كما الكائنات البشرية. بيوت يمكن من خلالها اختزال حكاية مدينة مر بها العالم. “لقد عشت هناك” يمكنها أن تقول لتكتب يومياتها بالرغم من أنها اكتفت بتأملات ذلك المكان يوما ما.

تقبض مغربل على المكان فيما يفلت الزمن من قبضتها. تقف مغربل مع المكان ضد الزمن. محاولة خاسرة بالتأكيد غير أنها تؤكد قوة الفن في مواجهة فعل الإزاحة. هناك مَن ينتصر أخيرا، ولكنه لن يكون أحدا بعينه. المفردة تتمدد وتتكرر وتعيد إنتاج نفسها بنفسها وتتلوى كما لو أنها تشعر بالألم.

في معرض “فن النصر” عام 2021 هناك شيء من السخرية السوداء؛ المبدأ السريالي الذي يمكن محاكاته في كل مكان وزمان. ليس المهم هنا أن نعرف مَن الذي ينتصر ولا مِن أجل مَن حدث الانتصار. هناك التباس يقع بين الأشكال التي تذكر بالأمعاء وبين الأفعال الهمجية التي يشهدها الوضع البشري ويكون ضحية لها من غير أن يتحقق من قدرته على إنتاجها.

عن طريق الفن تفتح الفنانة قوس الاستعانة بالوهم لتحارب الواقع. استعملت أنابيب لتكون مادة لصنع أقواس نصر، بعضها يوحي بطريقة مفزعة بالهزيمة. غير أنها أرادت أن تجلس القوة على كرسي من الشوك. هل علينا أن نعترف بأن كل هذه العمليات العضوية تشتغل في جسد مضاع؟ يمكن للفنانة أن تقول ذلك وقد اتسعت تجربتها الفنية لتخرج من النحت الفخاري إلى فن المفاهيم.

الفن الذي يبقى

“هناك أمل”، ذلك ما تقوله أعمالها التي هي ليست ممرات بين الأزمنة الهالكة بل هي جسور إلى ما يمكن أن يُسمى بالمستقبل. كل شيء سيكون معرّضا لأن يُترك مهملا ليصدأ ولكنه سيكون صالحا للاستعمال في لحظة قوة تنبعث من الفن. ستعود دائما إلى جملتها الأثيرة “ما في غير الفن” بمعنى الفن هو الذي يبقى. الفن هو الذي يؤسس لمرحلة ما بعد الخراب.

تعقد مغربل صلة بين الماضي والمستقبل من غير أن تتأمل الحاضر. كانت علاقتها بالزمن تقع دائما في الجهة الخاسرة. ولأنها لا تنتمي بفنها إلى ضرب سياسي من التفكير فإنها تركت الباب مفتوحا على جماليات مرحلة سيكون الإنسان فيها في أجمل حالاته؛ “سنكون هناك وستكون بيروت في انتظارنا”، لن يشك في ذلك أحد يا سمر.  

9