ديمقراطية القبيلة في ليبيا

القول إن هناك “شعبا” في ليبيا، أمر يحتاج شجاعة على معاندة الواقع. المساعي الرامية إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا تثبت ذلك.
ما يحصل الآن، هو أن كل قبيلة تقدم مرشحها، ثم تعترض على مرشح القبيلة الأخرى.
مدينة الزاوية أبطلت ترشيح خليفة حفتر. بينما أبطلت طرابلس ترشيح عبدالحميد الدبيبة، كما أبطلت سبها ترشيح سيف الإسلام القذافي، لتعيده محكمة الاستئناف إلى السباق، وهكذا. قبيلة تُبطل ترشيح قبيلة، وميليشيا تحاصر ميليشيا، ومحكمة تنقض محكمة، بينما يحلو للمصابين بمرض الخداع أن يخادعوا أنفسهم، بأن هذه الكيانات الممزقة تمثل “شعبا”.
ما هو تعريف “الشعب”؟ اسأل أي واحد في مدينة الزاوية وسوف يعطيك انطباعا يختلف عن الانطباع الذي يعطيه واحد في بنغازي، وآخر في مصراتة.
لا يوجد “شعب” في ليبيا. هناك قبائل تعرف نفسها فقط، وتستنكر العلاقات مع غيرها. وكل يستصغر الآخر، ويعتبره أقل أهلية منه.
الروابط، باختلاف أنواعها، وبتلازمها مع بعضها البعض، هي ما يعطي لكلمة “شعب” معناها. وهناك روابط اجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية وسياسية وعادات وتقاليد، هي التي تجعل من النسيج الاجتماعي نسيجا يجعل الفرد عضوا طبيعيا عندما يجد نفسه في بلدة أخرى غير بلدته، وعندما لا يكون هناك “تعريف” يعلو على هويته الوطنية.
الحقيقة التي لا يستطيع أي ليبي أن يُنكرها هي أنه إذا كان مواطنا من مصراتة، فإنه سوف يعتبر نفسه “مهاجرا” إذا وجد نفسه في بنغازي. ولسوف يصعب عليه أن يتزوج امرأة طرابلسية.
الاختلافات الجهوية يمكن أن تظل قائمة، ومنها ما يشمل اللهجة وبعض الأعراف، إلا أنها حالما تتحول إلى حواجز، فإن كلمة “شعب” هي التي سوف تسقط من الحساب لتحل محلها تعريفات أخرى.
النظام الرئاسي أكثر فاعلية ونجاعة من النظام البرلماني. هذا صحيح. وهناك أدلة كثيرة تبرهن عليه. ولكنه هو الآخر لا يشتغل إلا بوجود شعب.
وجود أكثر من 30 مرشحا للرئاسة في ليبيا إنما يعني وجود أكثر من 30 قبيلة أو عائلة أو جهة هي التي تتنافس على المنصب. ولن يمكن لأي مرشح، حتى ولو كان بطل العالم في اجتراح المزاعم، أن يفوز بنسبة 51 في المئة من أصوات الليبيين. أفضلهم لن يحظى بأكثر من 20 في المئة من الأصوات. وفي الواقع فإن الأمر يتعلق بعدد سكان القبيلة أو المنطقة التي يمثلها، بينما سوف لن تنتخبه القبائل الأخرى، لأن كلاّ منها يعطي أصواته لممثلها الخاص.
هذه هي نتائج الانتخابات الرئاسية في ليبيا. لا حاجة لمعرفتها إلى عبقرية حسابية خارقة. ولسوف يكون كاتب هذه السطور أسعد حالا لو ثبت أن تقديراته خطأ، وأن هناك شعبا ليبيا عزيزا يمكنه أن ينتخب شخصية وطنية تمثله وتمثل وحدته.
هل حدث من قبل أن انتخبت قبيلة شيخا لها من قبيلة أخرى؟ هل ترضاه إذا فُرض عليها؟ وهل تمتثل لسلطته، ولن تحاول أن تنزع شرعيته؟ الجواب الوحيد الصحيح هو لا. هذه هي ليبيا.
رغم أن بالوعة الزمن قد ابتلعته، وخرجت ليبيا عن المدار الذي جاء منه، إلا أن ترشيح سيف الإسلام كان في الواقع بمثابة كناية، حاول هذا الرجل، بلا وعيه الفطري، أن يقول من خلالها إن ليبيا لا تُحكم إلا من خلال “قائد” يتصور نفسه “ملك ملوك” القبائل، على غرار ما كان أبوه “ملك ملوك أفريقيا”.
المشير خليفة حفتر ينطلق من اعتبارات قريبة من ذلك. وهي اعتبارات تبدو أكثر “وطنية” من غيرها، لأنها تسعى للقفز من فوق القبائلية الليبية، إلا أنه لن يستطيع تجاوز حقيقة أنه يمثل شرق ليبيا أكثر مما يمثل جنوبها، كما لا يستطيع أن يحلم بأن يمثل غربها أصلا.
يشير هذا الواقع إلى طبيعة الخلل في الجهد الدولي الذي يُبذل من أجل بناء دولة في ليبيا. فهو جهد يقوم على فهم خاطئ، لإقامة نظام قائم على أسس “ديمقراطية”. ولكن دول العالم لا تملك فهما آخر للأمور.
الديمقراطية إذا كان بوسعها أن تشتغل كآليات لإدارة السلطة، فإنها تحتاج إلى “شعب”. ولكن ما العمل إذا لم يكن الشعب موجودا أصلا. ما نفع سيارة المرسيدس، إذا كان سائقها يتصرف بعقلية حوذي؟
إحدى أكبر الخطايا التي ارتكبها البرلمان الليبي هي أنه أقر قانونا لانتخاب الرئيس الليبي بالاقتراع الشعبي العام المباشر. تم تصميم القانون على مقاس حفتر، بينما كان من الأولى أن يتم تصميمه على مقاس طبائع الليبيين. هذا القانون قام على افتراض يقول إن “الشعب” الليبي سوف ينتخب رئيسا يمثل وحدته وروابطه وانتماءه. وما كان ذلك إلا وهما. وهو ما يزال في طور الأماني فحسب.
النظام الرئاسي أكثر فاعلية ونجاعة من النظام البرلماني. هذا صحيح. وهناك أدلة كثيرة تبرهن عليه. ولكنه هو الآخر لا يشتغل إلا بوجود شعب.
لا يوجد “شعب” في ليبيا. هناك قبائل تعرف نفسها فقط، وتستنكر العلاقات مع غيرها. وكل يستصغر الآخر، ويعتبره أقل أهلية منه
القذافي لم يكن دكتاتورا، لمجرد نزعة هستيرية ركبت على دماغه. وهو لم يتحول قوميا، ثم قام بتصعيد قوميته إلى أفريقيا، إلا لأنه أراد أن يقفز من فوق شعب لم يعثر عليه.
لقد احتاج القذافي دكتاتوريته، لأنه لم يملك سبيلا آخر لحكم تلك المجموعة من القبائل إلا بالقهر والقوة. هذا شيء يحصل في العادة من دون تخطيط مسبق. إنه يحصل بحكم إملاءات الواقع فحسب. وهو بسطحيته المعروفة، ما كان قادرا على أن يستدرك المستلزمات بحيث يعمل على إعادة بناء تلك القبائل لكي يؤلف منها شعبا. وفي الواقع، فلم تكن له مصلحة بذلك. فطار بجهله إلى “القومية العربية” ثم طار بها إلى الأفريقانية، من ناحية لكي يهرب من فشله، ومن ناحية أخرى لكي يجد كيانا، ولو وهميا، لسلطته الشمولية أو الجامعة.
ولقد كان الأولى بالبرلمان الليبي أن يترك اختيار الرئيس لتجمع ممثلي القبائل في البرلمان، ليكون بمثابة “شيخ الشيوخ” المتفق عليه.
وعندما يتاح لشيخ الشيوخ ذاك أن يستدرك متطلبات المستقبل، فلعله يفهم أنه بحاجة إلى بناء شعب، وأن حكومته يجب أن تكون حكومة عابرة للقبائل لتعيد تأليف الروابط في ما بينها، وليست حكومة عابرة للقارات كما فعل القذافي، تقيم وحدات وهمية بين دول بلا روابط، بينما تعجز أن تقيم وحدة بين برقة وفزان.
إحدى أبرز مشاكلنا في العالم العربي هي أننا نقبل الزيف ونعيش على مفاهيمه ونفترض أنها حقيقة، فتزداد مشكلاتنا تعقيدا، وتضيع القدرة على الحل.
لا يوجد شعب ليبي. هذا أول الحقيقة. الذين يبدأون من القبول بها، هم وحدهم الذين يمكنهم أن ينتهوا إلى بناء شعب حقيقي، في وطن عزيز. أما الذين يبدأون من الزيف، فإنهم لن ينتهوا إلا بنتائج مزيفة ويظل “شعبهم” ينتخب شيخا لكل قبيلة ويعترض على شيوخ القبائل الأخرى، حتى يظهر قذافي آخر يطير بهم إلى الوحدة مع أفريقيا.
الأوطان لا تُبنى على أوهام. ولا تُستدرك مآسيها وهي غارقة بالزيف. عندما يكون هناك شعب، سوف يصح ساعتها أن يكون هناك رئيس ينتخبه هذا الشعب.