أحمد مرسي المقيم بين الشعر والرسم بإلهام فرعوني

عام 2017 أقام الفنان أحمد مرسي في القاهرة معرضا بعنوان “أقفلت عينيك لترى اللامرئي”. كانت تلك الجملة هي عنوان لإحدى قصائد كتابه “بروفة بالملابس لموسم في الجحيم” الذي صدر عام 2003.
كان ذلك المعرض استعاديا لتحولاته الفنية والشعرية ما بين عامي 1974 و2012. وهي مرحلة إقامته في منهاتن بنيويورك. لكن كل شيء في ذلك المعرض كان يُحيل إلى الإسكندرية، مدينته التي غادرها منذ أكثر من أربعين سنة.
عام 2021 يعود مرسي إلى سيرته كاملة من خلال معرض يقيمه هذه المرة بمنهاتن “غاليري 94”. هذا المعرض أكثر سعة من سابقه من حيث تمثيله لمراحل التجربة الفنية. فأقدم لوحاته تعود إلى عام 1948 وأحدثها تعود إلى 2010.
ممثل السريالية الحي الوحيد
مرسي مزيج شخصياته المبدعة، الشاعر والناقد والرسام والمترجم والمثقف الموسوعي الذي صنع من غربته مجالا للإبداع من غير أن يحصر نفسه في إطار هويته
مرسي هو مزيج شخصياته المبدعة. الشاعر والناقد والرسام والمترجم والمثقف الموسوعي الذي صنع من غربته مجالا للإبداع من غير أن يحصر نفسه في إطار هويته.
أتذكر أن كتاب مرسي بالاشتراك مع الشاعر الرائد عبدالوهاب البياتي عن الشاعرين الفرنسيين أيلوار وأراغون كان من أهم الكتب في ذلك المجال. غير أن ما فعله مرسي في مجال الرسم يظل يذكّر بمحاولة عربية فريدة من نوعها وهي “جماعة الفن والحرية” أو “السريالية المصرية” التي كان من روادها جورج حنين ورمسيس يونان. مرسي هو الممثل الحي الوحيد للسريالية المصرية.
وبالرغم من أن مرسي عاش حياة فاتنة بين المدن فإن إلهامه يصدر من مدينتين. الإسكندرية وبغداد. هناك عاش فكرته عن الأمل في الفن. رسومه هي استرجاع لما عاشه. ذكرياته التي كتبها ورسمها كما لو أنها كانت أحلاما. فهو حين يلتفت إلى حياته يكتشف أن منعطفاته كانت نوعا من التحوّل السريالي. غريب أينما حل وغريب في كل ما يفكر فيه.
لا تزال السريالية المصرية التي بدأت مع جورج حنين ورمسيس يونان وفؤاد كامل حية من خلال أحمد مرسي كما لو أنه السريالي الأخير.
متاهة الشاعر بين مدنه
ولد مرسي في الإسكندرية عام 1930. أنهى دراسة اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية عام 1954. درس الرسم بين عامي 1952 و1953 في مرسم سليفيو بيتشي نجل الفنان الإيطالي أنطونيو بيتشي والذي كان سيف وانلي واحدا من أشهر طلابه. عام 1955 انتقل إلى بغداد للعمل في تدريس اللغة الإنجليزية. أقام سنتين هناك اختلط فيهما برواد الحداثة الفنية والشعرية في العراق ونسج صداقات عميقة مع عدد منهم كما أقام معرضا لرسومه عام 1956 بعد أن كان قد أقام معرضه الشخصي الأول في جامعة الإسكندرية عام 1953.
طور في بغداد أدواته النقدية وكتب مقالات عن عدد من المعارض الطليعية. عام 1958 أقام معرضين. الأول في أتيليه القاهرة والثاني في متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية. ثم تتالت معارضه بين القاهرة ونيويورك التي انتقل إليها عام 1974 للإقامة والعمل. وقبل رحلته الأميركية كان مرسي قد عمل في تصميم الديكور والأزياء لأعمال مسرحية قدمها المسرح الوطني ودار الأوبرا الخديوية في القاهرة. وهو عمل كان قد احتكره المصممون الإيطاليون من قبل.
عام 1968 أسهم إلى جانب كل من إدوارد الخراط وإبراهيم منصور وجميل عطية وسيد حجاب في إطلاق مجلة “غاليري 68” وشغل منصب رئيس تحريرها. لعبت تلك المجلة دورا مهما في تبني التجارب الحداثوية المصرية في الفن والأدب لأنها كانت الواجهة لما شهدته الحداثة من تحولات أثناء مرحلة ستينات القرن العشرين.
عالم غامض يحتفي بأسراره
منذ عام 1949 عُرف شاعرا، حين صدر له يومها كتابه الشعري الأول “أغاني المحاريب”. عام 2012 أصدر المجلس الوطني للثقافة كتابه “القصائد المختارة” بعد أن صدرت الأعمال الشعرية الكاملة في كتاب تضمن أكثر من ألف صفحة. وفي مجال الترجمة قدم مرسي شعر اليوناني الإسكندراني قسطنطين كفافيس عام 1970 في كتاب بعنوان “ثورة الموتى”. عام 1975 أصدر في بغداد كتابه “مقدمة في الشعر الأميركي الأسود” الذي لحق به كتابان عن الشعر الأميركي المعاصر صدرا في القاهرة عامي 1999 و2001.
أقام مرسي عام 2017 معرضا استعاديا لأعماله في متحف الشارقة بعنوان “خيالات حوارية”.
“ما زلت في صدد اكتشاف أسراري”، قال ذلك مرسي وهو في سن السابعة والثمانين يوم أقام ذلك المعرض الاستعادي. وهي جملة تكشف عن مغزى أن يكون المرء طليعيا في كل ما يقوم به.
فبالرغم من أنه حرص دائما على أن يحدث معلوماته عن الفن من خلال متابعاته لكل تحولات الحداثة وما بعدها وهو ما كان واضحا في كتاباته، فإنه ظل وفيا للسريالية التي حملها معه من مصر متأثرا بروادها المصريين من أتباع جماعة “الفن والحرية”.
ولكن ما معنى أن يصرّ المرء على البقاء سرياليا مصريا؟
في ذلك السؤال قد يكون هناك اختزال قسري لتجربة رسام كبير عاش بعمق في منهاتن وهي العاصمة الجديدة للفنون بعد باريس. لقد ألهمت تلك المدينة مرسي مثلما سحرته. كانت بالنسبة إليه مجالا لسياحة فكرية بقدر ما كانت فضاء بصريا عامرا بالارتجالات.
ومن منطلق لا شعوري فقد كانت منهاتن واحدة من علامات عالم ما فوق الواقع وهو العالم الطبيعي الذي لا يكف عن الحلم. كان تشخيصيا دائما وكانت كائناته البشرية تتعرف على قيمها الإنسانية من خلال تجديد حيوية علاقتها بما لا يُرى من وجودها وهو الجزء الذي لا يقع في الواقع المباشر.
عالم مرسي إنساني لكن بشرط ألا يكون الواقع مقياسا للتعرف على درجة تلك الإنسانية. فالكائنات التي غالبا ما تحضر على هيئة سؤال هي الجزء الظاهر من عالم غامض يحتفي ذاتيا بمتعة وجوده من غير أن يقدم أسبابا واضحة لتلك البهجة.
الحكواتي المضاد
كتاب مرسي بالاشتراك مع الشاعر الرائد عبدالوهاب البياتي عن الشاعرين الفرنسيين أيلوار وأراغون كان من أهم الكتب في عالم السريالية العربية.
عاش مرسي الجزء الأعظم من حياته غريبا. وكان من الطبيعي أن يتوزع فنه بين ذكريات المهاجر المستحضرة من الماضي ويومياته المرتبطة بمصائر صار هدفه أن يتحاشى الصدام بها. المرء هنا يصمم الحيز الذي يتحرك فيه الرسام أفقيا وعموديا. لذلك يحضر الزمن بقوة وتتشكل عناصر التفكير الفني من مادة العزلة.
يلتفت مرسي إلى الوراء البعيد فلا يرى سوى الإسكندرية التي هرب من عاطفتها الضاغطة وبغداد التي استقبلته بقلب ينبض بالرغبة في التغيير. وها هو ومنذ أكثر من أربعين سنة يقيم في منهاتن/نيويورك المدينة التي لا يمكن أن يندم أحد على أنه ملأ ساعته برملها. مدينة تلهم الخلود. لذلك يستحضر مرسي أشباح أجداده الفراعنة. إنه يتخيلهم في لوحاته وسط حكاياتهم القديمة التي تتجدد بحكم سحرها الأبدي. يكفيه أنه يستحضر معاني الأشياء التي حاولوا أن يخترعوا لها صورا.
ولأنه سريالي فقد غصت لوحاته بالمعاني. سيكون من المزعج بالنسبة إليه الوصول بتلك المعاني إلى مستوى شعبي ولكن ذلك ما يمكن أن يحدث حين يتعلق بالرموز المستعارة من الميثولوجيا الفرعونية التي صارت جزءا من الإطار الحكائي اليومي للإنسان المصري العادي.
كان على مرسي أن يكون حكواتيا مصريا مضادا.
لا يفلت مرسي من مصريته. فهو يحكي ويعيد الحكاية كما لو أنه لم يحكها من قبل. ولكن صياغاته السريالية وهبته القدرة على أن يكون مختلفا دائما.