أزمة الطاقة العالمية تعكس هشاشة عصر الطاقة المستدامة

يكاد الكثير من الخبراء والمحللين يجزمون بأن أزمة الطاقة التي يمر بها العالم اليوم والناتجة عن الأزمة الصحية تفرض بقوة على حكومات العالم قدرا كبيرا من الحذر في التعامل مع ملف التحول من الطاقة التقليدية إلى الطاقة النظيفة، التي أظهر الانتقال إليها أنها لا تزال محفوفة بالصعوبات، لكي لا تواجه عواقب يصعب استيعابها مستقبلا.
نيويورك - يمر العالم بأول أزمة طاقة كبيرة منذ بدء التحول نحو الطاقة المستدامة، والتي يرجح محللون أنها لن تكون الأخيرة حيث يضغط نقص الإمدادات على أسواق الغاز الطبيعي والكهرباء على مستوى العالم من بريطانيا حتى الصين، بالتزامن مع تعافي الطلب العالمي على الطاقة نتيجة تخفيف الإغلاق.
ويرى المختصون أن المختلف هذه المرة هو أن أزمة الطاقة تأتي في الوقت الذي تمر فيه الاقتصادات الغنية بواحدة من أكثر مراحل التحول في أنظمة الطاقة طموحا منذ عصر الكهرباء، حيث لا توجد طرق سهلة لتخزين الطاقة التي يتم توليدها من المصادر المتجددة.
ورأى ديفيد بيكر وستيفن ستابتسنسكي ودان مورتو وراشيل موريسون في تقرير نشرته وكالة بلومبرغ الخميس أن التحول إلى الطاقة المستدامة يستهدف جعل أنظمة الطاقة أكثر وليس أقل مرونة.

دانيال يرجين: ما يحدث رسالة تحذير عن مدى تعقيد الانتقال إلى الطاقة البديلة
لكن التحول الفعلي نحو الطاقة النظيفة سيستغرق عقودا، وخلالها سيظل العالم يعتمد على الوقود الأحفوري، حتى في الوقت الذي يغير فيه المنتجون الرئيسيون للنفط استراتيجياتهم الإنتاجية جذريا.
ويقول دانيال يرجين أحد أشهر محللي الطاقة في العالم إن أزمة الطاقة الحالية تمثل “رسالة تحذير بشأن مدى التعقيد، الذي سيشهده التحول نحو الطاقة المتجددة”.
وأشار يرجين مؤلف كتاب “الخريطة الجديدة: الطاقة والمناخ وصدام الأمم” إلى أنه في خضم التغييرات الجوهرية أصبح نظام الطاقة العالمي أكثر هشاشة وأشد عرضة للصدمات.
وتشهد أوروبا الآن حالة من الفوضى في سوق الطاقة، ففي الشتاء الماضي الذي كان أبرد من المعتاد، تم استنزاف مخزونات الغاز، في حين لم تحاول روسيا أكبر مصدر للغاز إلى أوروبا تعويض النقص خلال فصل الصيف، لترتفع أسعار الكهرباء والغاز إلى مستويات قياسية، مع تزايد الطلب على الطاقة نتيجة تعافي الأنشطة الاقتصادية من تداعيات الوباء.
وهذا السيناريو كان سيحدث لو أن العالم تعرض للجائحة قبل عقدين من الزمن، لكن الآن أوروبا تعتمد على مزيج مختلف من مصادر الطاقة.
وتراجع الاعتماد على الفحم بدرجة كبيرة لصالح الغاز الطبيعي الأقل تلويثا، لكن زيادة الطلب العالمي خلال 2021 أدى إلى ندرة في إمدادات الغاز.
وفي الوقت نفسه فإن انخفاض إنتاج المصدرين الآخرين للطاقة النظيفة بصورة غير معتادة كان نتيجة بطء حركة الرياح وانخفاض الأمطار في مناطق عديدة ومنها النرويج.
ويعتقد الخبراء أن “الضربة المؤلمة”، التي تعرضت لها أوروبا، بمثابة نذير شؤم لنوع الصدمات التي يمكن أن تطال مناطق أخرى من العالم.
ومع أن الطاقة الجديدة التي مصدرها الرياح والشمس تزايدت وباتت أرخص بصورة أكبر، فإن الكثير من مناطق العالم ستظل تعتمد على الغاز وغيره من أنواع الوقود الأحفوري لسنوات طويلة رغم أن رغبة المستثمرين والشركات في زيادة الإنتاج من النفط والغاز تتراجع حاليا.
وقال نيكوس تسافوس المحلل الاقتصادي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في تحليل حديث إن “الوضع الحالي بمثابة وصفة جيدة لتقلبات الأسواق”.
وأضاف تسافوس وهو أستاذ كرسي جيمس شيلزنغر لدراسات الطاقة والجيوسياسية بالمركز إن العالم “يتحرك بالتأكيد نحو نظام أكثر هشاشة”.
والحقيقة أن التحول نفسه وهو أمر حتمي للحفاظ على كوكب الأرض ليس سببا في الأزمة، ولكن أي نظام كبير ومعقد يصبح أكثر هشاشة عندما يشهد عملية تغيير كبرى كالتي يشهدها نظام الطاقة في العالم.
ويحدث كل هذا، بينما تتوقع خدمة بلومبرغ لتمويل الطاقة الجديدة نمو الاستهلاك العالمي للطاقة بنسبة 60 في المئة بحلول 2050، حيث يتخلص العالم من الوقود الأحفوري ويتحول إلى السيارات وأفران الطبخ وأنظمة التدفئة التي تعمل بالكهرباء.
كما أن استمرار نمو السكان والاقتصاد سيؤدي إلى ارتفاع استهلاك الطاقة. ومع انتقال الحكومات إلى المزيد من رقمنة جوانب الحياة المختلفة، فهذا يعني أن أزمة الطاقة تأتي في الوقت الذي ستزداد فيه حاجة الناس إلى مصادر للطاقة أكثر موثوقية من أي وقت مضى.
وتعني زيادة الطلب على الكهرباء وتقلبات أسعار الوقود، أن العالم سيظل يعاني من الصعوبات في مجال الطاقة لعقود قادمة.
ومن المحتمل أن تتراوح تداعيات ذلك بين فترات ارتفاع أسعار التضخم بسبب مشكلات الطاقة وتزايد الفجوة في الدخول بين الدول، وصولا إلى خطر حدوث انقطاعات واسعة للكهرباء وتوقف النمو الاقتصادي والإنتاج.
وكان سعد الكعبي وزير الطاقة القطري، الذي يعتبر بلده أحد أكبر منتجي الغاز الطبيعي في العالم إلى جانب أستراليا وروسيا قد اعتبر الثلاثاء الماضي على هامش مؤتمر حول القطاع عقد عن بعد في اليابان أن الوضع الحالي لسوق الغاز ليس صحيا ودعا إلى بذل جهود مشتركة نحو تحقيق تحول الطاقة.

نيكوس تسافوس: الوضع الحالي بمثابة وصفة جيدة لتقلبات أسواق الطاقة عالميا
وبعد أن باتت أنظمة الطاقة مترابطة ومتصلة، يشعر العالم كله بآثار الأزمة الراهنة ومدى انتشارها، ففي الولايات المتحدة، تضاعفت أسعار العقود الآجلة للغاز بالفعل خلال هذا العام قبل الوصول إلى ذروة الطلب التي تأتي مع فصل الشتاء.
ولأن الولايات المتحدة تعتمد على الغاز في إنتاج قرابة 40 في المئة من الكهرباء، فإن الأسعار المرتفعة ستؤدي حتما لارتفاع فواتير الكهرباء والتدفئة للمستهلكين.
أما في الصين، ورغم محاولة الحكومة زيادة حصة الطاقة البديلة، فإن قطاعها الصناعي مازال يعتمد بشدة على الوقود الأحفوري، سواء الفحم أو النفط أو الغاز.
وعندما استأنفت المصانع نشاطها بكامل طاقتها عقب انتهاء الجائحة، لم تجد بكين الوقود الكافي لإنتاج الكهرباء التي تحتاجها المصانع.
ولذلك انكمش الإنتاج الصناعي خلال الشهر الماضي لأول مرة منذ 19 شهرا، ما يعني أن ارتفاع أسعار الطاقة أصبح أكبر صدمة تضرب ثاني أكبر اقتصاد في العالم منذ بداية الجائحة.
والأمر نفسه ظهر في بريطانيا التي توالى فيها إفلاس شركات الكهرباء الصغيرة التي عجزت عن استيعاب الارتفاع الحالي في أسعار الغاز. كما رصدت إيطاليا مليارات اليوروهات للتخفيف من آثار ارتفاع أسعار الطاقة على المستهلكين.
وعقد وزراء مالية دول اليورو اجتماعا الاثنين الماضي لبحث كيفية التعامل مع أزمة ارتفاع أسعار الطاقة، حيث طالبت فرنسا إسبانيا وإيطاليا واليونان بتحرك منسق على مستوى الاتحاد الأوروبي للتعامل مع هذه المشكلة.