قواعد التيار السلفي في الجزائر تائهة بعد تصدع تيار المداخلة

الخلافات داخل تيار المداخلة تتفجر فجأة بعد هجوم مركّز على الرجل الأول في التيار محمد علي فركوس وسط شكوك بوقوف السلطة وراء هذا الخلاف بعد فتوى فركوس الرافضة للتباعد في الصلاة الذي أقرّته الوزارة خلال فترة كورونا، وهو ما يهدد ببداية خلاف مع تيار استفادت منه السلطة في صراعها مع خصومها الإخوان.
الجزائر – رغم حالة الانغلاق التي يتسم بها التيار السلفي في الجزائر، إلا أن تقليد الانضباط والولاء الذي يبدو للمتابع من الخارج لا يحجب الخلافات المستجدة بين رموز المدخلية، ويبدو أن الوساطات التي بذلت في وقت سابق لإرساء التماسك الداخلي قد زال مفعولها بتجدد الصراع بين رمز التيار وبين عدد من معاونيهم، الأمر الذي يضع القواعد أمام منعرج مجهول ويهددها بالتشتت بين أجنحة أو تيارات دينية أخرى.
قرر الرجل الأول في التيار السلفي بالجزائر محمد علي فركوس مقاطعة أبرز معاونيه في التيار، وهما لزهر سنيقرة وعبدالمجيد جمعة، وإذ برر القرار بخلافات عملية ومنهجية، فإن الخلاف المستجد يعيد للأذهان سيناريو خلافات سابقة حول مسائل تتصل بمواقف واجتهادات بالغت في انعزال التيار وفي مهادنة السلطة، لاسيما فيما يتعلق بمطالب التغيير والتعدد.
وظلت فتاوى رمز التيار السلفي والأستاذ الجامعي محمد علي فركوس ومواقفه تشكل مرجعية أساسية لقطاع كبير من الإسلاميين، ينبذون النشاط الحزبي والاحتجاج السياسي، ولا يخاصمون الحكام، وهو ما تماهى مع رغبات السلطة طيلة عقود كاملة في الاطمئنان على مواقف الوعاء المذكور، وتوظيفه في كسر شوكة الإخوان وأحزاب الإسلام السياسي.
يتأكد من بيان علي فركوس بأن العلاقة بين التيار والسلطة لم تكن على وفاق رغم ما يظهر من توافق في المشهد الديني
ويبدو أن مسألة الفتوى التي أصدرها الرجل بشأن إقرار وزارة الشؤون الدينية بالتزام التباعد في الصلوات هي القطرة التي أفاضت الكأس وفجّرت الخلاف المتراكم بين رموز التيار الذي لا يتوانى عن الحضور الديني في مختلف المحطات والأحداث التي تعرفها البلاد، بداية من أحداث الحراك الشعبي إلى غاية الاستحقاقات الانتخابية.
واتهم محمد علي فركوس في آخر بيان له رفاقه المقربين لزهر سنيقرة وعبدالمجيد جمعة بتنظيم هجوم عليه ونشر الإشاعات والأوصاف حول شخصه في أوساط المريدين والأنصار كقولهم بـ”المسحور” و”النفس الخارجي” و”الأحمق” و”لم يوافقه إلا المبتدعة”، وهو خطاب غير مسبوق في تاريخ أدبيات التيار رغم الخلافات الصامتة بين شيوخه.
وذكر في بيان له بأنه “من المعلوم أن طرق الدعوة تجري أحداثها في واقع حياة الناس وفق الأسباب والمسببات لا وفق القصود والنيات، ومن عهد غير بعيد مرت بهذه الديار الجزائرية خاصة عاصفة هوجاء وموجة عارمة كان سببها الاضطراب في وسائل الدعوة الحاصل من غير المتمكنين علما وخلقا ولا المؤهلين لميدانها، فانتفضوا على رموز الدعوة بالطعون وإيغار الصدور وإلصاق التهم”.
وهو تلميح إلى ميلاد جيل جديد داخل التيار السلفي يريد التجديد أو المراجعة الداخلية، الأمر الذي يكون الرجل قد اعتبره تهديدا لنفوذه وسطوته على التيار السلفي، خاصة وأنه لا زال يحظى بتزكية المشيخة العالمية ودعمها، ويعتبر نفسه “العالم الديني الخارج عن النقد أو التقويم”.
وهو ما أفصح عنه بالقول “صار التناكل بالدعوة وطلب المكانة والاستحواذ على القنوات المساندة لهم مطلقا في الحق، والباطل شيمة يعرفون بها، يثيرون بها الشبهات ويفترون الكذب في وجه الدعاة والدعوة، واتخذوا الرويبضة جندا لإذكاء نار العداوة والبغضاء”.
وإذ فجّرت فتوى رفض صلاة التباعد التي أقرتها وزارة الشؤون الدينية من أجل الوقاية من خطر الإصابة بوباء كورونا، في إطار جملة الإجراءات الصحية المطبقة في البلاد، فإن فتاوى أو مواقف سابقة تجاه أحداث السنتين الأخيرتين قد أحرجت رموز التيار السلفي أمام الشارع الجزائري.
وكان محمد علي فركوس قد وقف بفتوى دينية ضد احتجاجات الحراك الشعبي بدعوى درء الفوضى وتفويت الفرصة على المخططات المغرضة، وتجنب المآلات التي تعيشها تجارب مماثلة، ويقصد بها ليبيا وسوريا واليمن، وهو ما شكّل أوّل تمرد على نفوذه المذهبي، حيث ظهر العديد من المحسوبين على السلفية في المظاهرات والاحتجاجات التي عاشتها العاصمة الجزائرية ومختلف المدن.
وجاءت فتوى الانتخابات الرئاسية التي انتظمت في ديسمبر 2019 لتزيد من عزلة التيار ومن امتعاض المحيطين به، بعدما ثبت أن دعوته إلى “التزام الجماعة” و”التحذير من دعوات الغرب للتمرد على الحكام”، و”توخي سبل الأمن والاستقرار”، و”عدم الانجرار وراء دعوات المقاطعة أو إفشال الاستحقاق الانتخابي”، وهي مبادئ ثبت عدم جدواها لا في إقناع الشارع ولا في تقديم خدمة للسلطة، بعدما اختارت الأغلبية من الجزائريين عدم الانتخابات.
وتأكد من بيان محمد علي فركوس بأن العلاقة بين التيار والسلطة لم تكن على وفاق رغم ما يظهر من توافق حول الأفكار والمبادئ المعروفة لدى السلفيين، وهو ما جاء في قوله “مسألة التباعد في الصلاة، التي كثر فيها الخوض والتسفيه إلى حد إخراج المسألة عن مسارها الفقهي الاجتهادي والولوج بها ضمن السائل المنهجية ومعارضو ذلك بوجوب طاعة وليّ الأمر من غير التفات إلى قيود طاعة وليّ الأمر، ومنها أن تكون في المعروف دون المعصية، ولم يفرّقوا بين طاعة وليّ الأمر مطلقا وبين مطلق الطاعة “. وهو ما يوحي إلى أن القبول بالتباعد في الصلاة من عدمه، لا يستند إلى قاعدة فقهية، بقدر ما يعتبر امتدادا من قضية الموقف من قرار السلطة الحاكمة، ولأن الأمر لم يعد محل إجماع، فقد ظهر الخلاف على “صلاة التباعد وأبواب الطاعة للحاكم”.
وفي ظل الخلافات المتجددة في بيت التيار السلفي تتجه الأنظار إلى مصير الوعاء الآخذ في التمدد خلال السنوات الأخيرة، غير أن التطورات التي عاشتها البلاد عصفت به إلى شتات موزع بين موال للرمز الأول محمد علي فركوس، وبين منخرط في معارض للسلطة ضمن فعاليات الحراك الشعبي، وبين من ارتمى في أحضان النمط الإخواني، بعدما تقدمت بعض الوجوه السلفية لخوض غمار الانتخابات التشريعية الأخيرة، ولا يستبعد أن تكون حاضرة في الانتخابات المحلية المقررة نهاية شهر نوفمبر المقبل.
واستطاع التيار السلفي أن يستقطب جمهورا معتبرا في الجزائر خاصة في أوساط الشباب، وتمكن من التمدد في العديد من المساجد والمؤسسات الدينية رغم حرص الحكومة على التحكم في القطاع الديني وتحييده عن التغلغل المذهبي والطائفي، كما استفاد من صمت السلطة في الاستحواذ على أروقة تجارية واقتصادية بحالها، لكن المستجدات الأخيرة في الهرم قد تكون بداية الانهيار للتيار السلفي كما انهار قبلهم الإخوان.