رشيد قريشي أطلق الحرف العربي في حدائق اللغات

أتاح تيار الحروفية الفني لعدد من الخطاطين الطامحين إلى أن يكونوا رسامين فرصة الظهور بطريقة مختلفة خارج فضاء موهبتهم الأصلية بحيث صارت علاقتهم بالخط العربي مبنية على أساس استلهام جماليات الحرف في تجلياته الخطية المختلفة. يمكن أن نذكر هنا التونسي نجا المهداوي واللبناني وجيه نحلة باعتبارهما الأبرز في ذلك المجال.
أما الجزائري رشيد قريشي فهو متعدد المواهب على مستوى التقنيات التي يلجأ إليها من أجل تنفيذ أعماله كالحفر الطباعي والفخار والتركيب والجداريات الكبيرة، غير أن موهبته الأساس تكمن في أنه يجيد التعامل مع الخط العربي باعتباره خطاطا لم يتسلل إلى عالم الرسم إلا بعد أن درس بعمق تجارب العديد من رسامي الحداثة الغربية التجريديين الذين انتقلوا بالرسم من مرحلة الشكل إلى مرحلة اللاشكل معتمدين على عنصر الخط كما هو حال الفرنسي بيير سولاج.
حروفي بلغات متعددة
احتفظ قريشي بروح الحرف العربي وحركته المرنة وليونته من غير أن يلتزم بشكله الخارجي الذي يتفنن الخطاطون في إبراز ملامحه في سياق قوانين جاهزة. لذلك فإن ما يرسمه يقع خارج نطاق فكرة استلهام جماليات الحرف العربي كما اعتمدها الحروفيون. قريشي حروفي هو الآخر لكن بلغات متعددة وبتجليات مختلفة. هناك في فنه الكثير من الأمازيغية وهي لغة محلية في شمال أفريقيا لكن هناك أيضا إلهام ياباني لا تخطئه العين. يحرث قريشي أرضا موزعة بين استعارات التقطها من مناطق لغوية متباعدة، سحرته وسعى لأن يؤلف من نسيجها لغته الخاصة.
يتوزع قريشي إذاً بين أماكن مختلفة. غير أن هناك مكانين يحتلان جزءا مضيئا من مساحة تجربته العاطفية. مزرعة النخيل التي أقامها في بلده الجزائر ومقبرة أفريقيا الخاصة بموتى عمليات الهجرة غير الشرعية الفاشلة في البحر التي أقامها في بلد إقامته تونس.
في المسافة ما بين حياة مثمرة طويلة وموت قصير عبثي الدلالة يتنقل قريشي ما بين حكمة الحياة الصوفية الممعنة في غيابها الشفاف وبين البعد المادي للصناعات الفنية اليدوية كالنسيج والفخار والصباغة بكل ما تنطوي عليه تلك الصناعات من تكريس لموهبة العيش العصامي المباشر.
وبسبب براعته في التحليق بتجربته الخطية عالميا خارج حدود التراث المحلي فقد اعتبرته فرنسا فنانا فرانكوفونيا فهو مثلما يقيم بين تونس وباريس فإنه ينتمي إلى العالم العربي وفرنسا معا. في تسعينات القرن الماضي أقامت وزارة الثقافة الفرنسية له معرضا كبيرا في بغداد كانت باحة المدرسة المستنصرية فضاء له وهو تكريم لم يحظ به فنان عراقي أو عربي من قبل أو من بعد.
فنان متحفي
ولد قريشي عام 1947. ترعرع في عين بيدا وسط منطقة جبال الأوراس. حصل على دبلوم المعهد العالي للفنون الجميلة بالجزائر وأكمل دراسته في المدرسة الوطنية للفنون التزيينية، مدرسة الدراسات المدنية بباريس. اهتم قريشي بالشعر والصوفية. كان تعلقه بفلسفة جلال الدين الرومي هو مصدر إلهامه في مشروعه الفني الكبير طريق الورود. وفي المجال عينه فقد أنجز قريشي كتابا صدر في فرنسا احتفى فيه عن طريق رسوماته الخطية بنخبة من كبار المتصوفين، الحلاج، الرومي، ابن عربي، رابعة العدوية وفريدالدين العطار. وفي المقابل فإنه شغف بقصائد الفلسطيني محمود درويش وأصدر كتابا فنيا هو عبارة عن معرض بعنوان “أمة في المنفى” كان مستلهما منها وهو ما أهله في ما بعد للفوز بجائزة محمود درويش في دورتها الثانية عشرة إلى جانب المؤرخ الفرنسي هنري لورنس والمخرج الفلسطيني محمد بكري.
عام 2011 نال قريشي جائزة جميل من متحف فكتوريا والبرت بلندن. وأنجز أعمالا مشتركة مع شعراء وكتاب فرنسيين مثل رينيه شار وميشال بوتور وجزائريين يكتبون بالفرنسية مثل محمد ديب وجمال بن الشيخ.
تعاون مع حرفيين وبالأخص في مجال الفخار من أجل إنجاز أعماله الكبيرة التي تعد أعمالا متحفية. وكما هو واضح من سيرته فقد حرص الفنان الجزائري على أن يضفي على تجربته طابعا عالميا. وهو ما يسر عليه المشاركة في بينالي فينيسيا مرتين (1997 ــ 2001) ومعرض “البناء المفاهيمي في العالم” بنيويورك عام 1999 و”القرن القصير” ما بين ميونخ وبرلين وشيكاغو ونيويورك 2001 و2002.
شارك أيضا في معرض “الكلمة في الفن” الذي أقامه المتحف البريطاني عام 2006. وعام 2011 أقام معرضا شخصيا في قصر الإمارات بأبوظبي. كما رسم قريشي نافذة من الزجاج الملون لكنيسة سانت سيسيل بسيباك بفرنسا. اقتنت متاحف عالمية عديدة أعمال قريشي الفنية منها المتحف البريطاني والمتحف الوطني للفن الأفريقي بواشنطن ومتحف الفن الحديث بباريس ودارة الفنون بعمان.
زين قريشي الكثير من الأماكن العامة برسوماته غير أن تزيين عربات مترو دبي يعد واحدا من أهم إنجازاته. وبذلك يكون قد جمع بين صفتين نادرا ما تمكن فنان عربي من أن يجمع بينهما. فهو رسام متحفي وفي الوقت نفسه رسام يمكن التعرف عليه في الحياة العامة. رسومه تقيم وراء جدران المتاحف كما أنها متاحة للنظر بطريقة رخيصة الثمن أيضا. قبل مترو دبي كان قريشي قد زخرف واجهات مبان ثقافية عديدة في مختلف أنحاء العالم ومنها مدينة تونس التي يقيم في إحدى ضواحيها “سيدي بوسعيد”.
الأصيل على حافة الاستفهام
بدأ قريشي خطاطا. تلك جملة يمكن أن تعتبر نوعا من المرجعية الثقافية العامة. فقريشي لم يتوقف كثيرا عند تلك اللحظة من حياته. لقد بدأ باعتباره صانع لوحات أي أنه منذ بداياته حرص على أن يكون رساما، لكن من طراز خاص. شجعه في ذلك اطلاعه كما قلت على تجارب عدد من الرسامين التجريديين الفرنسيين.
كان ابن اللغة الصوفية التي تربى عليها في طفولته وهي لغة تتجاوز المتاح من اللغات المحلية إلى لغة عالمية تجمع بين اللغات المعروفة واللغات المندثرة. بين الأشكال والأصوات والروائح والذكريات. لذلك وجد الفنان أن جزءا من جهده مع تلك اللغة لا بد إنما يقع في العثور على الأبواب السرية التي تؤدي إلى حدائق الجمال المقيمة في التراث الشعبي وبالأخص الحكايات.
في الجزء الأكبر من تجربته هناك إيحاءات مستلهمة من الطقوس الفنية الشعبية غير أنه لا يتوكأ عليها باعتبارها مصدرا لأصالة لا يعتز بها كما فعل الآخرون. أصالة أعمال قريشي كانت دائما مستلهمة من دنوها من العالمية. إنه فنان لا يسترجع مفردات جمالية من أجل أن يفخر بأنها كانت موجودة قبل عشرة قرون. إنه يسبغ على تلك المفردات قدرا من قلقه وشغبه ورغبته في أن يكون حيا وعميقا في استفهامه.
لم تكن لعبته جاهزة. استعمل قريشي أدوات جاهزة. ذلك صحيح. غير أن الصحيح أيضا أنه تمكن من تطويع تلك الأدوات عن طريق حيلة فنية ذات صلة بالفن الحديث، بحيث بدا كل شيء معه جديدا.
المنتشي بانتمائه العالمي
ذلك كان فنه المقيم بين الإلهام الصوفي والحرفة التقليدية. لم يسبقه أحد إليه عربيا. المواد التي استعملها كانت عربية غير أن النتائج لم تكن كذلك. فبالمقارنة مع الحروفيين العرب كان قريشي الأكثر ارتباطا بالعالمية بمفهومها الإنساني الشامل. لقد تحاشى شكل الحرف العربي واكتفى بحركيته وإيقاعه الروحي وهو عن طريق ذلك الفعل أسبغ على فنه صبغة توحي بالانتماء إلى عالم الفن، باعتباره مكان انتماء روحي.
زين قريشي الكثير من الأماكن العامة برسوماته غير أن تزيين عربات مترو دبي يعد واحدا من أهم إنجازاته. وبذلك يكون قد جمع بين صفتين نادرا ما تمكن فنان عربي من أن يجمع بينهما