مقتدى الصدر ينقض قراره بمقاطعة الانتخابات متذرعا بإنقاذ العراق من الفساد

قلق رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر من ضياع فرصته الأخيرة لتحقيق حلمه القديم في حكم العراق، وخوفه من استغلال خصومه السياسيين فرصة غيابه عن الاستحقاق الانتخابي للانقضاض على السلطة مجدّدا، دفعا به إلى العودة عن قراره على الرغم مما يمثله ذلك من انتقاص من مصداقيته، خصوصا وأن للرجل رصيدا سابقا من التناقض في القرارات والتراجع عنها.
بغداد - أحيا رجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر بتراجعه عن مقاطعة تياره الانتخابات التشريعية المبكرة المقرر إجراؤها في أكتوبر القادم، آماله في قيادة العراق من خلال تحقيق فوز كبير في تلك الانتخابات يراه ممكنا بفعل شعبيته في مقابل تراجع شعبية كبار خصومه ومنافسيه من داخل عائلته السياسية الشيعية، لكنّه أضاف في المقابل موقفا جديدا إلى سلسلة مواقفه المتضاربة وتراجعاته الكثيرة عن قرارات مفصلية كان قد اتّخذها في أوقات سابقة.
وتذرّع الصدر لتبرير تراجعه الذي لم يخل من إحراج له وانتقاص من مصداقيته بـ”إنقاذ العراق من الفساد”.
ورغم المواقف المتذبذبة لزعيم التيار الصدري وافتقاره للتجربة السياسية، فقد اكتسب الرجل الذي يعوّل كثيرا على الإرث الديني لأسرته المتمكّنة في مجال التدين الشيعي وذات الرصيد في معارضة نظام الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، أهمية في الحياة السياسية العراقية يعزوها متابعون للشأن العراقي إلى ضحالة تجربة الحكم الجارية في البلد من ثمانية عشر عاما، والتي تتجسّد نتائجها في حالة التراجع الشديد للدولة العراقية على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
وعزا المحلل السياسي العراقي علي رسول الربيعي انسحاب وعودة الصدر إلى المشاركة في الانتخابات البرلمانية إلى ما يعرف بـ”التكتيك السياسي” وممارسة الضغط للحصول على أفضل نتائج ممكنة، في إطار التنافسات بين القوى الحاكمة المشتركة في عملية المحاصصة التي خطط لها الأميركيون منذ 2003.
وقال الربيعي في تصريح لـ”العرب” إنّ “التعهدات جزء من لعبة المصالح وتقاسم الغنائم السياسية. فهذه هي السياسة في العراق صراع وتنافس في أحسن الأحوال للحصول على أكبر قدر من الحصص في لعبة تقوم أصلا على المحاصصة”.

واستبعد أن تنتج التحالفات أي تغيير عميق ومهم لصالح بناء دولة بديلة عن هذه المحكومة بآليات عقيمة وبفساد مستشر. ودعا إلى عدم الاكتراث للتكتيكات السياسية للأفرقاء لأنهم يبحثون عن مصالح تخص أحزابهم، ولا تقع في إطار البحث عن حل حقيقي للبلاد وإخراجها من مأزقها.
وقال “سواء انسحب التيار الصدري أم اشترك، فالانتخابات بحدّ ذاتها أصبحت مهزلة ومثار سخرية بين العراقيين، ولا أحد يثق بنتائجها لأنها ستضفي شرعية زائفة على قوى الفساد والميليشيات”.
وخلال الفترة التي أعقبت إعلان الصدر عن قراره بمنع تياره من المشاركة في الانتخابات، بعد الانتقادات الحادّة التي وجّهت للتيار الذي يدير قطاع الصحّة في البلاد، إثر كارثتي حريقي المستشفيين في بغداد والناصرية وما خلّفتاه من خسائر جسيمة في الإرواح، بدا وكأن دور مقتدى ضروري في الحياة السياسية بالبلاد من خلال مناشدات السياسيين وكبار مسؤولي الدولة له للتراجع عن قراره، حتى ذهب البعض إلى التحذير من فشل الانتخابات وتفجّر اضطرابات في الشارع.
وشذّ عن هذا الموقف خصوم سياسيون تقليديون للصدر بدوا مرتاحين لعدم مشاركة تياره في الانتخابات على رأسهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، الذي بدا خلال الأيام الأخيرة طامحا للعودة إلى المنصب الذي شغله بين سنتي 2006 و2014 وأزيح على خلفية الحصيلة الكارثية لفترة حكمه، والتي تلخّصها سيطرة تنظيم داعش على ما يقارب ثلث مساحة العراق خلال السنة الأخيرة من ولايته.
وقلّل المالكي الذي بدأ بالفعل حملة انتخابية تحت عنوان “نعيدها دولة” وكثّف بشكل لافت من ظهوره الإعلامي، من قرار زعيم التيار الصدري بمقاطعة الانتخابات، معتبرا أن عدم مشاركة التيار فيها لا ينتقص من شرعيتها ولا يمثّل مدعاة لتغيير موعدها.
واعتبر مراقبون أنّ طموحات رئيس الوزراء العراقي الأسبق للعودة إلى قيادة البلاد جعلت زعيم التيار الصدري في ورطة، نظرا للعداوة المستحكمة بينهما.
وكانت مصادر عراقية قد تحدّثت قبل أيام عن قيام التيار الصدري بدراسة خيارين لقطع الطريق على المالكي، يتمثّل الأول في الضغط باتجاه تأجيل الانتخابات وهو ما لم يتح للصدريين في ظل إصرار حكومي مدعوم دوليا على إجراء الاستحقاق في موعده، ويتمثل الثاني في إيجاد طريقة للعودة عن قرار المقاطعة، وهو ما تحقّق الجمعة بالفعل.
وقال الصدر في كلمة متلفزة من على منبر تجمع حوله العشرات من أعضاء تياره بعد تسلمه “ورقة إصلاح موقّعة” من عدد من الزعماء السياسيين، إن “تلك الورقة جاءت وفق تطلعاتنا وتطلعات الشعب الإصلاحية، لذلك فإن العودة إلى المشروع الانتخابي المليوني الإصلاحي باتت أمرا مقبولا”.
وأضاف “يجب أن تكون الورقة الإصلاحية ميثاقا وعقدا معهودا بين الكتل والشعب بسقف زمني معين، دون مشاركة الفاسدين وذوي المصالح الخارجية وعشاق التبعية والتسلط والفساد”.
كما حث أنصاره على التوجّه إلى مراكز الاقتراع والتصويت في الانتخابات، مشدّدا على أنّ التصويت لحركته سيعني تحرير العراق من التدخل الأجنبي والفساد المستشري، ومضيفا “سنخوض تلك الانتخابات بعزم وإصرار لا مثيل لهما لأجل إصلاح العراق وإنقاذه من الاحتلال والفساد والتطبيع والتبعية”.
ويشغل الموالون للصدر مناصب رسمية ويسيطرون على جزء كبير من ثروة البلاد. وهم متّهمون مثل سائر القوى والأحزاب الأخرى المشاركة في العملية السياسة في العراق بالتورط في الفساد والمساهمة في نشره داخل مؤسسات الدولة.
وموقف الصدر الأخير بشأن المشاركة في الانتخابات هو الرابع من نوعه، حيث سبق له أن أقسم بعدم المشاركة فيها، ثم عاد عن قراره متذرّعا بالإصلاح ومعتبرا أنّ هذا مبرّر كاف لـ”تجرع سمّ” المشاركة بحسب ما ورد على لسانه، قبل أن يعود ويعلن المقاطعة مجدّدا في الخامس عشر من شهر يوليو الماضي.
ورغم هذا التذبذب في مواقف الصدر فإنّ عدم مشاركته بشكل كبير ومباشر في تجربة الحكم الكارثية، أبقت له على قدر من الشعبية داخل الأوساط الشيعية العراقية الفقيرة والناقمة على شخصيات قيادية وأحزاب كبيرة قادت المرحلة السابقة. ولهذا السبب حاز تحالف “سائرون” المدعوم من قبله أكبر عدد من المقاعد في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام 2018، وامتلك بذلك أكبر كتلة برلمانية مؤلفة من 54 نائبا من أصل 329.
وكانت الانتخابات المبكرة أحد أبرز الوعود التي أطلقها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إثر توليه السلطة في مايو 2020، بعد الحركة الاحتجاجية الواسعة التي انطلقت في أكتوبر 2019. وهاجمت الحركة التي قادها الشباب ودعمها في بعض الأحيان أتباع التيار الصدري الطبقة السياسية بأكملها في العراق، معتبرة أنها فاسدة وتفتقر إلى الكفاءة. ويقدم الصدر، الذي يقود أيضا ميليشيا مسلّحة تعرف بسرايا السلام، نفسه على أنه المناهض الأول للسياسيين الفاسدين والمدافع الأبرز عن العدالة الاجتماعية.