"مدينة صامتة".. فيلم روائي يحوّل امرأة إلى سمكة

"قافلة بين سينمائيات" تواصل احتفاءها بالسينما النسوية.
السبت 2021/08/28
فتاة أوروبية أشبه بسمكة ما إن تخرج من محيطها تموت

تتابع “قافلة بين سينمائيات” عروضها التي تختارها من ضمن أفضل الأفلام التي سبق وأن عرضت ضمن مهرجان القاهرة لسينما المرأة، وهي حين تفعل ذلك تحاول أن تعرض للجمهور ليس فقط تلك الأفلام، بل أيضا إتاحة الفرصة لمقابلة مخرجيها والتحاور معهم عبر منصات التواصل، ويعتبر فيلم “مدينة صامتة” واحدا من تلك الأفلام الهامة التي عرضتها القافلة مؤخرا.

حاولت “قافلة بين سينمائيات” أن لا توقف نشاطها مع انتشار وباء كورونا، فحوّلت بداية من العام 2020 عروض مهرجان القاهرة لسينما المرأة إلى المنصات الافتراضية وأتاحت مشاهدتها لشريحة كبيرة من محبي السينما ومتابعيها، ثم استثمرت تعلق الجمهور بتلك العروض لتعيد عرض الأفلام السينمائية التي أخرجتها النساء وعرضت في القافلة ضمن مهرجان أيام القاهرة لسينما المرأة الذي يعتبر واحدا من مبادرات تلك القافلة.

ومن ضمن تلك العروض فيلم “مدينة صامتة” الذي بُرمج في شهر أغسطس الحالي للمخرجة الهولندية تريس آنا، وهو فيلم تدور أحداثه في طوكيو حول شابة أوروبية تقرّر الانتقال للعيش في العاصمة اليابانية لتتقن أسرار طريقة تحضير وأكل السمك، ولكنها تشعر بالغربة والوحدة الشديدة. وسبق للفيلم أن شارك في العام 2013 في مهرجان أيام القاهرة لسينما المرأة وحصل على جائزة الجمهور.

تجربة مريرة

لا يمكن لنا نحن الذين نعيش في منطقة الشرق الأوسط، المنطقة التي تستقبل وتتعايش مع أي غريب قادم إليها بكل سهولة ويسر، أن نتصوّر أن بلادا أخرى يقف فيها الزائر عاجزا أمام جهله للغتها وغريبا لعدم إمكانيته التقرّب من سكانها إلاّ عن طريق اللغة، إنها اليابان، بل طوكيو تحديدا المدينة التي لطالما سمعنا عنها وعن سحرها سواء على صعيد الطبيعة الأخّاذة أو ما تشهده من تطوّر تكنولوجي وصناعي مُبهر، ولكننا في حقيقة الأمر نجهل الكثير عنها وعن حياة سكانها والزوار القادمين إليها.

تريس آنا: الفيلم يقترب من عمق المجتمع الياباني ويلامسه من الداخل

ويعتبر فيلم “مدينة صامتة” واحدا من الأفلام التي تقترب إلى حد كبير من عمق المجتمع الياباني لتلامسه من الداخل، وهو حين يفعل ذلك يستند إلى فترة كبيرة من المعايشة التي سبق للمخرجة وهي نفسها كاتبة الفيلم أن عاشتها في مرحلة الثمانينات حين كانت في زيارة عمل طويلة لطوكيو برفقة فرقة مسرحية.

تقول آنا “زرت طوكيو للمرة الأولى في العام 1986 برفقة فرقة مسرحية، وأقمت هناك لمدة عام كامل، كنت أتحسّس خلالها خطواتي، حتى أنني لم أتمكن من التواصل مع أهلي سوى مرة واحدة كلفتني الكثير من المال، لأن التكنولوجيا ووسائل التواصل لم تكن متوفّرة حينها”.

تعرفت المخرجة الهولندية في تلك الفترة على تفاصيل الحياة اليابانية وأبنيتها العالية والشاهقة مقارنة بالمكان الذي كانت تعيش فيه في إحدى القرى الهولندية، ولكن رغم علو تلك الأبنية وضخامتها، تقول المخرجة “إلاّ أن البيوت تبدو صغيرة جدا إلى درجة لا تسمح بوجود أماكن للاستحمام، الأمر الذي يدفع معظم سكان الحي للتوجه إلى أماكن الاستحمام العامة”.

وكانت تلك الإقامة والمعايشة للمكان عن قرب بمثابة البذرة الأساسية الأولى للكاتبة لتؤلف روايتها عن تلك المدينة التي لا يتكلّم سكانها سوى اللغة اليابانية.

في الفيلم تقوم الشابة الأوروبية بالالتحاق بمدرسة لتعلم طريقة إعداد وطهي الأسماك (تنظيفها وتقطيعها وطبخها لاحقا)، في مدرسة يديرها طباخ حازم وحاد الطباع، ولكنها تكتشف بعد عدة أيام أنها وحيدة وغريبة في تلك المدينة التي لا يتكلم سكانها الإنجليزية إلاّ في حالات نادرة، وحين تقرّر التخلص من وحدتها تلجأ إلى العمل في إحدى الأماكن العامة كفتاة ليل لتختلط بالمجتمع وتتعرّف على أصدقاء.

وحين تحاول التوغّل في تلك العلاقات بحثا عن صديق يؤنس وحشتها ووحدتها تتعرّض للاغتصاب، الأمر الذي سيغيّر مفهومها للحياة ولتصبح بدورها سمكة بالمعنى المجازي.

ولكن لماذا اختارت كاتبة ومخرجه الفيلم السمك ليكون هدف البطلة التي قدمت إلى طوكيو من أجله، تقول آنا “حين كنت في طوكيو دُعيت لتناول السمك بالطريقة التقليدية اليابانية في أحد المطاعم، حيث يتم اختيار أنواع السمك من الحوض ومن ثم تؤخذ السمكة لتنظيفها وتقطيعها وهي ما زالت حية من قبل مختصّ في ذلك، ولأنني كنت الضيفة كان عليّ أن أجرب الطعام أولا باستخدام العصيان فتناولت جزءا صغيرا من السمكة، وحين وجدت أنها ما زالت تتنفّس شعرت بالقرف والاشمئزاز وحتى الخوف، وكانت لتلك الحادثة بالذات وقع بالنسبة إلي، فكيف يمكن لشخص أن يقطع السمكة وتبقى تتنفّس، من تلك الحادثة بالذات كانت البذرة لكتابة الفيلم”.

عوالم غريبة

Thumbnail

عادت لاحقا تريس آنا إلى طوكيو لتجري بحثا عن طريقة أكل السمك وفكّرت في طريقة ترتبط فيها المرأة بالسمكة وتربطها بها شخصيا كامرأة تعيش أو عاشت في ذلك العالم الغريب، بمعنى أن تبتكر قصة تتداخل فيها المرأة مع السمكة بشكل رمزي إلى درجة تصبح فيها المرأة في نهاية الفيلم سمكة والعكس صحيح.

فقامت بداية بكتابة قصة أو رواية قصيرة على اعتبار أن كتابة القصة أسرع وأسهل وأقل تكلفة حول فترة إقامتها في طوكيو متعمّقة في تفاصيل تلك المدينة البعيدة التي أشعرتها بالغربة وأصابتها بالإحباط، وخاصة تلك البيوت الصغيرة جدا التي لا تكفي لضم مكان للاستحمام، الأمر الذي يضطر الناس للذهاب بين الحين والآخر إلى الحمام العام الخاص بأهل الحي للاستحمام بشكل جماعي وعار تماما، حيث كان يتم خلع الحذاء على الباب ووضعه في صناديق مقفلة، وهو الأمر الذي كانت تمارس تفاصيله المخرجة بدورها أيضا في حمام النساء العام.

لكن آنا حين فكرت في تحويل الرواية إلى فيلم سينمائي كانت تحتاج إلى تمويل كبير لإنجازه، خاصة أن الأحداث ستدور في طوكيو مع طاقم عمل فني كبير، إلاّ أنها حين عجزت عن إيجاد التمويل الكافي قامت بتصوير الفيلم في لوكسمبورغ التي لم تكن تقارن بجمال ولا بحيوية وطاقة مدينة طوكيو، ولكنها كانت الأنسب إنتاجيا كما استغنت عن الإضاءة واكتفت بالإضاءة الطبيعية، واستعانت بمعمل كيميائي لديه أرضية مناسبة قام مصمّمو الديكور بتحويله إلى حمام عام.

"مدينة صامتة" فيلم روائي تتداخل فيه المرأة مع السمكة بشكل رمزي إلى درجة تصبح فيه البطلة سمكة

أما بالنسبة إلى الممثلين فأعلنت عن رغبتها في الحصول على مشاركات نساء يابانيات لتصوير الفيلم وبالفعل تقدّمت لها كثيرات، وعن التجربة تقول “تصوير الفيلم بتلك الطريقة أشبه بعمل فدائي، لأننا كنا نحاول أن نخلق عالما يشبه العالم الحقيقي في طوكيو”.

رغم ذلك كان عليها تصوير بعض المشاهد الحقيقية في مدينة طوكيو ضمن فترة زمنية صغيرة ومحدّدة ساعدتها في ذلك معرفتها القوية والسابقة للأماكن واختيارها الجيد والمناسب لها.

وتريس آنا ليست فقط سيناريست ومخرجة سينمائية بل أيضا كاتبة روائية ولديها العديد من المسرحيات، كما أنها اتجهت مؤخرا وبسبب انتشار فايروس كورونا للعمل في إنتاج وتصميم البودكاست وهو أسلوب جديد يساعد على رواية القصص، خاصة في ظل الفراغ المحبط لمخرجي الأفلام في هولندا.

وفيلم “مدينة صامتة” ليس فيلمها الأول الذي يعتمد على تجربة شخصية عاشتها بل سبقها فيلم آخر بعنوان “طيور لا يمكنها الطيران”، كان سببه أو بذرته الأساسية زيارتها لجنوب أفريقيا في العام 1995 أثناء حضورها مهرجان سينمائي هناك، فاستغلت زيارتها للبلد لتصوير فيلم عن مزرعة للنعام.

و”قافلة بين سينمائيات” هي عروض متنقلة بين بلدان العالم المختلفة لتقديم الأفلام التي تنتجها نساء، ومن بين مبادراتها “مهرجان القاهرة الدولي لسينما المرأة” الذي يعتبر أول مهرجان لسينما المرأة يعقد سنويا منذ العام 2008 باسم “مهرجان سينما المرأة العربية واللاتينية” الذي أصبح منذ بداية العام 2013 مهرجانا دوليا لسينما المرأة يضمّ أفلاما من كافة دول العالم.

ويعرض المهرجان أفلاما روائية وتسجيلية طويلة وقصيرة وأفلام رسوم متحركة من العشرات من الدول حول العالم، بالإضافة إلى التنوّع على مستوى الدول المشاركة، وتتميّز الأفلام المعروضة فيه بتنوّعها الشديد من ناحية اللغة البصرية ومن ناحية المضمون. ومن المتوقع أن تعود القافلة لاستئناف نشاطها وجولاتها السينمائية العالمية اعتبارا من شهر أكتوبر القادم.

15