لا مستقبل مشرقا ينتظر أفغانستان مثل فيتنام

سقوط كابول بأيدي حركة طالبان يشبه سقوط فيتنام “سايغون” قبل 46 عاما بعد خروج القوة العظمى من البلد والتخلي عن الحلفاء.
الاثنين 2021/08/23
سايغون الأميركية ليست سايغون الأفغانية

يشبه سقوط كابول بأيدي حركة طالبان إلى حد كبير سقوط فيتنام “سايغون” قبل 46 عاما، ويتجسد ذلك في صور خروج القوة العظمى من البلد والتخلي عن الحلفاء واندفاع الجماهير نحو المروحيات، بينما يتعالى صوت إطلاق النيران على الحشود الخائفة.

لكنْ هناك فرق رئيسي وجوهري بين كلا النزاعين، وهما أطول حربين خاضتهما الولايات المتحدة على مر تاريخها. ويتمثل الفرق تحديدا في خصميْ الأميركيين في تَيْنك الحربيْن، حيث كان الفيتناميون الشماليون يخوضون حربا سياسية، بينما تخوض حركة طالبان حربا ثقافية، وقد كانت لدى مقاتلي الفيتكونغ في فيتنام رؤية لما يمكن أن يكون عليه مستقبل البلاد، لكن طالبان لا تملك سوى صور تستلهمها من الماضي الغابر.

كان الصراع في فيتنام طويلا وبالغ الوحشية، لكن في جوهره كان هناك مشروعان سياسيان: ففي فيتنام الشمالية كان هناك مشروع ثوري يسعى لتحقيق مجتمع شيوعي مستقل، بينما في جنوب البلد نرى مشروعًا رأسماليًا ذا صبغة أميركية، أي كانت حرباً يغلب عليها الطابع السياسي.

هناك فرصة ضئيلة لتوسيع رؤية طالبان السياسية أو إعادة صياغتها على عكس فيتنام بعد عام 1975

وفي الجانب الآخر كانت معارك طالبان الطويلة في أفغانستان معارك ثقافية بالأساس، وذلك لتحقيق رؤيتهم في حقبة التسعينات حول الاستقرار الثقافي للبلد الذي دمرته الحرب الأهلية، ثم طرد الجنود الأجانب الذين أطاحوا بـ”إمارتهم الإسلامية”، ولم يكن هناك مشروع سياسي في صميم تلك الرؤية.

سمح المشروع السياسي لفيتنام بإمكانية التغيير، وفي الواقع بعد مضي أكثر من 10 سنوات من انتهاء الحرب قام الحزب الشيوعي الحاكم -وهو نفس الحزب الذي فاز بالحرب- بإجراء تغييرات مهدت الطريق لـ”اقتصاد السوق ذي التوجه الاشتراكي” وهو الاقتصاد القائم حالياً، وقد سمح المشروع السياسي الذي قامت على أساسه الحرب بهذا الانتقال. وليس من الراجح حصول ذلك مع طالبان، بل قد يكون مستحيلًا من الناحية الفلسفية.

لا تُعد جماعة طالبان منظمة ذات أيديولوجيا متماسكة، ومن المؤكد أنها غير قابلة للتغيير السياسي؛ ذلك أن العقيدة التي يستنير بهديها أعضاء الجماعة قائمة على سياسة تحت مظلة الدين، وهي تخضع خضوعا تاما لتفسيرات زعيم طالبان “الأمير”، كما لا توجد أي آلية لتغيير قراراته أو إعادة تفسيرها.

وأقرب شيء لدى حركة طالبان يشابه أو يناظر أي أيديولوجيا مقننة أو أي مجموعة قوانين هو منشور “لايحة”، وهي مدونة سلوك منشورة لمقاتلي طالبان تحدد جوانب القتال والعدالة وحتى الحكم وفقًا لمبادئ الشريعة الإسلامية، وهي إحدى الطرق القليلة التي يمكن لقيادة طالبان من خلالها ضمان قدر من توحيد طريقة تعامل مقاتليهم مع السكان المدنيين عبر المسافات الشاسعة.

ولم تكن هناك حكومة مركزية تفرض قوانين معيارية في جميع أنحاء البلاد في السنوات الخمس من حكم طالبان في فترة أواخر التسعينات من القرن الماضي، بل على العكس من ذلك تم تحديد القواعد والقوانين على المستوى المحلي لكل مدينة، وكانت النتيجة الحتمية أن المجتمعات النائية كانت أكثر تحفظًا من المجتمعات التي تقطن المدن الكبرى.

ولكن تتم مراجعة “لايحة” مركزيًا ودون إجراء نقاش عام، وعلماء الدين الذين يقومون بتحديثها يعينهم زعيم طالبان، وفي الواقع ينص المنشور على أنه إذا واجه المقاتلون موقفًا لا تشمله اللائحة فعليهم طلب النصح والمشورة من القيادة بدلاً من تفسير النص بأنفسهم.

جماعة لا يحكمها قانون
جماعة لا يحكمها قانون

وهذه الحاجة المستمرة لطلب النصح والإرشاد من القيادة ستجعل حكم أفغانستان التي يقطنها الملايين شبه مستحيل، بسبب التعقيدات الخاصة بقضايا المحاكم والمعاهدات الخارجية والخلافات التجارية وهلم جرا. وإذا افترضنا استمرار نظام المحاكم الحالي فسيكون هناك مسار مزدوج ونظامَا عدالة موازيان، أحدهما مليء بالفساد ولكنه مدعوم في النهاية بالدستور الأفغاني الحالي، والآخر نظام محاكم شرعية يقضي بصورة عاجلة، لكن وفق وجهة نظر رجل واحد.

وهذا الاعتماد الكبير على حكم ورأي الأمير هو المشكلة الأساسية التي تتزامن مع سيطرة طالبان على البلاد، وهذا يعني ضرورة إعادة النظر في التأكيدات والضمانات المقدمة من طرف حركة طالبان، التي قُدمت في المؤتمر الصحافي الأول بعد السيطرة على كابول، وفي تصريحاتها السابقة حول احترامها لحقوق المرأة “في إطار الشريعة الإسلامية” كون الأمر متروكا للأمير ليقرر ما يندرج تحت ذلك الإطار.

ولا يحتاج الأفغان إلى الانتظار لاستنباط أو استنتاج ما سيقرره الأمير، فما عليهم سوى النظر حولهم، فهناك الكثير من أصحاب المتاجر في كابول الذين يطمسون صور الإعلانات التي تظهر صور النساء وتقارير عن أشخاص يحرقون أوراقهم وينظفون ملفاتهم الشخصية على الإنترنت.

وجلست حركة طالبان على كرسي الحكم دون مشروع سياسي لقيادة البلاد، ومن خلال أيديولوجيا لا تسعى سوى لتخليص البلاد من “التأثيرات الأجنبية” المبهمة، ولم تقدم شيئًا سوى العودة إلى الماضي الغابر. وعلى عكس فيتنام ما بعد عام 1975 هناك فرصة ضئيلة لتوسيع رؤيتها السياسية أو إعادة صياغتها، وهذا يعني حتى محدودية التحسينات أو التطويرات المحتملة التي قد تأتي من جانب الدول الإسلامية المتاخمة، لأن طالبان لا تسعى لتقليد المشاريع السياسية الأخرى أو التعلم منها.

وفي مقال لصحيفة “نيويورك تايمز” في فبراير من العام الماضي كتب سراج الدين حقاني، نائب زعيم طالبان، “إذا أمكننا التوصل إلى اتفاق مع عدو أجنبي، فالأحرى بنا أن نكون قادرين على حل الخلافات بين بعضنا البعض من خلال طاولة النقاش”.

وهناك بالتأكيد مستقبل ينتظر أفغانستان، وهو يجمع بين الحقوق المنصوص عليها في دستور عام 2002 وثقافة أفغانستان وعاداتها، وهو ما يمكن اكتشافه من خلال المفاوضات، لكن طالبان لم تخض حربًا دامت زُهاء العشرين عامًا من أجل البدء في التفاوض الآن.

*سينديكيشن بيرو

 
7