في رحاب التاريخ

تاريخ نضال الشعب الأيرلندي يكاد يتطابق مع تاريخ النضال الفلسطيني، بإيجابيات القوى والأحزاب والجماعات وسلبياتها.
الأحد 2021/07/25
تقديم الرواية التاريخية واجب لا محيد عنه

منذ أسبوع، بدأت في تسجيل الجزء الثالث، من برنامج عن تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر، بثته قناة “الكوفية” الفلسطينية، في العام 2016. وقدمت خلال الجزأين، مطالعة تحليلية وسردية، لمسار قضية فلسطين بجوانبه التفصيلية، دونما تردد في تسليط الضوء على أداء قيادات حركة الاستقلال الفلسطيني، بسلبياته وإيجابياته. وخصصت الحلقة الأولى من الجزء الأول، لظاهرة الأمية الثقافية لدى القيادات الفلسطينية الراهنة. فلا يتردد المدقق والباحث في الجزم بأن أياً ممن يتصدرون العمل السياسي الفلسطيني الآن، لم يقرأ كتاباً أو حتى كراساً، عن تاريخ بلاده، وبالتالي ليست هناك عبرة يستفيد منها، ولا واقعة يستشهد بها، علماً بأن المواقف والتحديات والخدع والخيارات الخاطئة، ظلت تتكرر على مر العقود. وفي الحلقة الثانية، تطرقت إلى كارثة تضييع مركز الأبحاث الفلسطيني الذي تأسس في بيروت في العام 1964، وكان يوصف بأنه ذاكرة فلسطين، بعد أن استُعيدت مكتبته الضخمة من إسرائيل، في عملية تبادل أسرى في العام 1983. وكانت إسرائيل التي استهدفت مركز الأبحاث الفلسطيني مرتين بالمتفجرات، قد نقلت المكتبة أثناء احتلالها لبيروت في العام 1982.

 ومن المفارقات، أن قراراً صدر من الرئاسة الفلسطينية بوقف راتبي التقاعدي، لغير سبب سوى أنني أقدم الرواية التاريخية الفلسطينية، على شاشة قناة “الكوفية” التي أسسها محمد دحلان، إذ رأى صاحب القرار، أن ظهوري عبر تلك القناة، يعتبر خرقاً للسياسة الرسمية، دون أن أتعرض لهذه السياسة أو لصاحبها الذي كان في ذروة جموحه. وللأسف، فقدت أيضاً مجال عمل آخر، ككاتب في الشأنين الفلسطيني والإسرائيلي، في وسيلة إعلام أخرى خليجية، بسبب ذلك الظهور، علماً بأن القناة تتبنى خطاً وطنياً واضحاً. لكنني ظللت على قناعتي بأن تقديم الرواية التاريخية وحث الناشئة على الاطلاع عليها واجبان لا محيد عنهما. وبعد الانتهاء من الجزأين، ارتحلت إلى أيرلندا، بعد مواجهة الكثير من المصاعب وانسدادات الأفق في البلاد العربية.

 وصلت في الرواية، إلى العام 1934 على أن يستمر السياق، بعد انتهاء متطلبات استقرار أسرتي في أيرلندا. وعندما افتُتنت بأداء النظام السياسي هناك، لاسيما في بعده الاجتماعي، صممت على تأليف كتاب عن تاريخ أيرلندا وحركتها الوطنية. وفي الحقيقة فوجئت بأن تاريخ نضال الشعب الأيرلندي يكاد يتطابق مع تاريخ النضال الفلسطيني، بإيجابيات القوى والأحزاب والجماعات وسلبياتها. ولما أشرت إلى ذلك باقتضاب، في حديث مع أستاذ جامعي أيرلندي يترأس قسم التاريخ في جامعة “غولوي” فاجأني بأن زميلاً له، من أساتذة التاريخ الأيرلنديين، أصدر كتاباً في هذا الموضوع في الولايات المتحدة. لكن الجوانب الطيبة في سلوك القادة الوطنيين الأيرلنديين أدهشتني من نواحي المثابرة والزهد والشجاعة والتنظيم، حتى عندما كانوا يعرفون، وهم يفجرون الانتفاضة تلو الأخرى، بأنهم لن يحققوا النصر وأن الإعدام هو مصيرهم. وبعد إتمام هذا الكتاب الكبير؛ اتسع الكلام ووجَبَت المقارنة بين مستوى أخلاق المناضلين ووطنيتهم وثقافتهم في تلك التجربة، ومستواه عند ضئيلي المواهب والمناقب عندنا. ذلك فضلاً عن لقطات تستوجب التأمل، من بينها أن أمل الأيرلنديين الكاثوليك في الاستقلال، تعزز بأفكار رجال من أبناء المستوطنين البروتستانت القدامى وأحفادهم، وتجاوزوا عن الفوارق المذهبية وبذلوا من مال آبائهم وأجدادهم ملاك الأرض، لكي تنتصر أيرلندا، وكانوا يتمتعون بفضيلة الأمانة، وحريصين على مقدرات الشعب الذي أصبحوا منه، متماثلين معه في كراهية المستعمر وفي طلب الاستقلال.

في تاريخ أيرلندا، كان من بين اللقطات الأخلاقية الجميلة، في انتفاضة الفصح في العام 1916 أن أحد القادة الميدانيين كان معه في ضواحي دبلن، نحو خمسين أو ستين رجلاً تطوعوا لمقاتلة الإنجليز، وانضم إليهم في الطريق إلى موقف الترام عدد آخر. كان المناضل مضطراً للاستيلاء على قاطرة الترام لكي ينتقل هو وجماعته إلى قلب المدينة. أشهر السلاح في وجه السائق، لكي يتجه إلى المكان المقصود، لكنه وقف على الدرجات، يَعدّ الركاب واحداً واحداً، لكي “يقطع” لهم التذاكر ويدفع ثمن المواصلات. فمن يتوخى الحرية لبلاده لا يحتقر الشعب ولا يستضعفه، ولا تخطر في ذهنه فكرة الإقصاء ولا يعيش حياة باذخة على حساب الفقراء، ومن يطالب بالحقوق الوطنية، لا يسلب حقوق الناس في بلاده!

24