أدوات القمع ترسخ صورة مشوهة عن سلطة عباس

قابلت السلطة الفلسطينية الاحتجاجات الشعبية بعد مقتل نزار بنات المعارض السياسي للرئيس محمود عباس بحملة قمع واسعة النطاق تستهدف ترهيب المناوئين الذين تحولت مطالبهم من محاسبة قتلة نزار بنات إلى إنهاء حكم عباس المتواصل منذ 16 عاما.
رام الله - أعادت السياسة الأمنية للسلطة الفلسطينية التي يرأسها محمود عباس إلى الأذهان الطريقة القمعية لاحتجاجات وقعت في بلدان عربية عام 2011، بعد حملة واسعة النطاق ضد المناوئين لحكم الرئيس الفلسطيني في رام الله.
واحتج معارضون وحقوقيون وصحافيون على سوء إدارة عباس والتضييق على الحريات في الضفة الغربية ووفاة ناشط سياسي بطريقة مريبة على أيدي أجهزة الأمن في 24 يونيو الماضي.
وتعيش الأراضي الفلسطينية منذ قرار تأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية في أواخر أبريل على وقع احتجاجات شبه يومية للتنديد بالسياسات التي تتبعها السلطة عبر أجهزتها المختلفة لـ”كتم الأصوات” المناهضة لعباس والتي تطالبه بالرحيل عن الحكم.
وكان الفلسطينيون يأملون في إحداث تغيير سياسي عبر الانتخابات لإنهاء حالة الانسداد في ملف المصالحة بين حركتي فتح وحماس، والبحث عن بديل يعيد الحركية والفاعلية للمشهد السياسي المتعثر منذ سنوات.
ويقول مراقبون إن عباس أمر بتأجيل الانتخابات لإنقاذ سلطته بعد التأكد من فقدان شعبيته ووجود انقسام كبير داخل حركة فتح، حيث أظهرت استطلاعات للرأي أن شعبية الرئيس الفلسطيني في حال ترشح للانتخابات الرئاسية كانت ستسجل أدنى مستويات مقابل أي شخصيات سياسية فاعلة أخرى.
وشكلت حادثة وفاة نزار بنات، وهو ناشط حقوقي ومعارض لسياسات السلطة الفلسطينية، وكان مرشحا عن قائمة مستقلة للانتخابات التشريعية، نقطة انطلاق موجة غضب واسعة ضد الأجهزة الأمنية والرئيس عباس الذي يتولى الحكم منذ 16 عاما.
ولم يفلح إعلان السلطة فتح تحقيق في الحادثة في امتصاص غضب المعارضين الذين يعتبرون أن حكم عباس ينزع إلى الاستبداد على نحو متزايد.
وتقول جماعات حقوق الإنسان إن عباس دأب على اعتقال معارضيه وإنه يستمر في رئاسة السلطة الفلسطينية بموجب مرسوم. وترفض السلطة الفلسطينية الاتهامات بأنها تنفذ اعتقالات على خلفية الآراء السياسية.
تعذيب واعتقالات
وثقت شهادات وروايات لحقوقيين وصحافيين ونشطاء من المجتمع المدني ممارسات القمع التي نفذتها الأجهزة الأمنية التابعة لعباس بحق المتظاهرين الذين خرجوا للتنديد بحادثة وفاة نزار بنات، الذي قتل بعد اعتقاله من منزله ووجدت على جسده آثار للتعذيب بشكل قاس.
وتقول الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان إنها أجرت تشريحا لجثمان المعارض السياسي بناء على موافقة من عائلته، حيث “أكدت مشاهدات التشريح وجود إصابات تتمثل في كدمات وتسحجات في مناطق عديدة من الجسم بما في ذلك الرأس والعنق والكتفين والصدر والظهر والأطراف العلوية والسفلية، مع وجود آثار تربيط على المعصمين”.
ويروي عقيل عواودة، وهو مراسل إذاعي كان يغطي الاضطرابات في الشرق الأوسط منذ أكثر من عقد قصة تعذيبه وضربه في أحد مراكز التوقيف التابعة للسلطة الفلسطينية في رام الله.
ولا يزال عواودة بعد أسبوعين تقريبا من تعرضه للضرب المبرح على يد قوات الأمن يعاني من ضيق في التنفس، ولا يزال يحمي صدره المصاب بكدمات بيده ولا يزال الصراخ داخل مركز الشرطة يطارده.
وقال الصحافي الفلسطيني لوكالة أسوشيتد برس “لم أر في حياتي مثل هذه الوحشية من قبل. ما زلت أسمع صوت صراخ الناس داخل مركز الشرطة حتى اليوم. يتردد صداه في رأسي (…) لا أستطيع أن أنسى”.
وكان عواودة من بين عدة أشخاص تعرضوا للضرب والاعتقال في مركز للشرطة في الخامس من يوليو الجاري، في واحدة من أعنف الحوادث خلال أسابيع من الاحتجاجات ضد سلطة عباس التي تدير أجزاء من الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل.
وعملت قوات الأمن الفلسطينية، بما في ذلك ضباط بملابس مدنية على ما يبدو، على تفريق المتظاهرين بعنف، مما أثار قلق المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، الذي قال إن أحد مراقبيه الحقوقيين الذين يغطون احتجاجات رام الله كان من بين العشرات الذين تعرضوا لهجمات “بطريقة غير مقبولة تماما”.
وعلى الرغم من القمع لا تزال الولايات المتحدة والدول الأوروبية تنظر إلى السلطة الفلسطينية كشريك أساسي في إدارة الصراع، خاصة بعد حرب غزة في مايو الماضي. فقد دربت الدول الغربية قوات الأمن الفلسطينية وساهمت في تأسيس أجهزتها المختلفة منذ تأسيس السلطة عام 1994.
واعتقلت قوات الأمن ما لا يقل عن ستة نشطاء عندما تجمعوا وسط رام الله حيث يقع مقر السلطة الفلسطينية مساء 5 يوليو، وتوجه أفراد من العائلات إلى مركز الشرطة للتحقق من مصير المعتقلين، خوفا من أن يواجهوا نفس مصير بنات.
وقال أبي العابودي، وهو ناشط فلسطيني – أميركي في المجتمع المدني كان من بين المعتقلين، إن زوجته جاءت مع أطفاله الثلاثة ووالده البالغ من العمر 77 عاما، وهو أستاذ متقاعد، وشقيقه. وقال إنه والمحتجزين الذين كانوا معه لم يتعرضوا للإيذاء الجسدي، لكن ضباط الأمن أبعدوا أفراد عائلاتهم.
وتابع “لم تكن في الواقع مظاهرة سياسية، كانت العائلات تطالب برؤيتنا. وهتفت زوجته ‘دولة الحرية لا اعتقالات سياسية!'”.
قمع في الشارع
قال عواودة إنه وصل مع زميل له إلى الاعتصام يوم 5 يوليو وبدآ في التصوير. وعندما طلب منهم ضابط أمن التوقف عن التصوير، عرّفا بنفسيهما بأنهما صحافيان لكنهما امتثلا للطلب. ثم تجمعت شرطة مكافحة الشغب أمام مركز الشرطة وأمر الضابط الجميع بالمغادرة في غضون 10 دقائق، لكن الهجوم بدأ بعد حوالي ثلاث دقائق.
وقال العديد من الشهود إن الشرطة هاجمت كل من في الشارع، من نشطاء وصحافيين ومراقبين، وأطلقوا رذاذ الفلفل وضربوهم بالهراوات وشدوا النساء من شعرهن.
وقالت ديالا عايش، محامية حقوق الإنسان التي كانت هناك كمراقبة، إن يديها قُيّدتا وجُرّت إلى مركز الشرطة، وإن بعض رجال الشرطة ضايقوها وضربوها في “أماكن حساسة” من جسدها. وكانت من بين 15 شخصا على الأقل تعرّضوا للاعتقال.
وبمجرد دخولهم جُرّ عواودة ورجل آخر إلى غرفة صغيرة وضربا بالهراوات بشدة، وقال عواودة “ظللت أقول لهم إنني صحافي. أخبرتهم منذ لحظة وصولي أنني صحافي”.
وتُرك على أرضية الزنزانة إلى أن نبّه طبيب كان من بين المعتقلين الشرطة وأخبرهم أن نبضه ضعيف. فنُقل هو والرجل الآخر إلى المستشفى، وعولج عواودة من كدمات شديدة على صدره. وأعلن عن إطلاق سراح جميع المعتقلين خلال الساعات الأربع والعشرين التالية.
وبعد أكثر من أسبوع، شعر عواودة برعشة وبدا أنه يعاني صعوبة في التنفس أثناء سرد تجربته لوكالة أسوشيتد برس. وتوقف عدة مرات وأبقى يده على صدره طوال المقابلة.
وقال أبي العابودي إن زوجته وأطفاله الأربعة، وهم توأمان يبلغان من العمر سبعة أعوام وخمسة أعوام، تُركوا في الشارع عند اعتقال والدتهم وجدّهم وعمّهم، و”أصيبوا بصدمة شديدة”.
ولم يعلق المسؤولون الفلسطينيون علنا على أحداث الخامس من يوليو. وأحال متحدث باسم الشرطة الأسئلة إلى متحدث باسم الحكومة، ولم يرد على طلبات التعليق.
وقال العابودي إن رئيس الوزراء محمد اشتية اتصل بوالده الذي كان أستاذا له في جامعة بيرزيت، ليقدم له اعتذارا. وأكّد العابودي أن “اعتذاره غير مقبول لأنه وعد بالمحاسبة ولم نر أي محاسبة”.
وقال صالح حجازي، نائب مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، إن السلطة الفلسطينية دأبت منذ سنة 2011 على الأقل على مُهاجمة المتظاهرين السلميين، بينما تقيد إسرائيل النشاط السياسي في الأراضي المحتلة بشدة، وغالبا ما تصطدم قواتها الأمنية بالمحتجين الفلسطينيين وتحتجز ناشطين بارزين.
وتابع حجازي “الفلسطينيون يُعاقبون من كلا الجانبين. وتأتي الرسالة من كلا السلطتين، مع بقاء إسرائيل صاحبة القوة المطلقة، ومفادها أنه لا توجد حرية تعبير أو تجمع للفلسطينيين”.
وإذا كانت حملة السلطة الفلسطينية تهدف إلى وقف الاحتجاجات، فإنها لم تنجح. وتجمّع المتظاهرون في رام الله مرة أخرى بعد أيام من الهجوم على الاعتصام. وعاد عواودة إلى محطته الإذاعية ويقول إنه سيواصل العمل كمراسل. واستُدعي العابودي للمثول أمام المحكمة في سبتمبر، ويمكن أن يُعتقل مرة أخرى، لكنه يقول إنه مصمم على مواصلة عمله.
وتابع “لا نزال نهتف مطالبين بحريتنا. نريد حقوق الإنسان الأساسية، نريد الحرية، نريد التحرر. نحن لا نهتم بمن انتهك حقوقنا، لكننا لن نتسامح مع هذه الأنواع من الانتهاكات”. وتبقى التساؤلات مفتوحة بشأن الخطوات التالية لسلطة عباس في التعامل مع الاحتجاجات المستمرة على حكمه، وذلك في الوقت الذي يسعى فيه إلى تثبيته بأدوات القمع التي استخدمت في أكثر من منطقة عربية منذ العام 2011.