إقبال متصاعد من الأسر المصرية على كفالة اليتامى ومجهولي النسب

تسجل مصر استجابة غير مسبوقة من أرباب الأسر لاحتضان أطفال دور الرعاية الاجتماعية وتوفير أجواء عائلية دافئة لهم لتعويضهم عن حرمانهم من عاطفتي الأبوة والأمومة. وقد بلغت التسهيلات المقدمة للأهالي حد السماح للأرامل والمطلقات ومن لم يسبق لهن الزواج بكفالة الأطفال ورعايتهم، وهو ما يعكس حجم التحرر من سطوة الخطاب الديني المتشدد الذي يحرّم التبني.
القاهرة - عكس إعلان وزارة التضامن الاجتماعي في مصر عن ارتفاع طلبات الأُسر على كفالة الأطفال الأيتام ومجهولي النسب حجم التغير الجذري الذي حدث في أفكار الكثير من الناس وتحررهم من سطوة الخطاب الديني المتشدد الذي اعتاد تحريم الكفالة لأسباب غير إنسانية بدعوى أن ذلك يمهد للتبني الذي تحرّمه الشريعة.
وقالت وزارة التضامن إن الاستراتيجية التي وضعتها لتوسيع دائرة الكفالة الأسرية لأطفال دور الرعاية الاجتماعية تسير بشكل سريع، وهناك استجابة غير مسبوقة من أرباب الأسر لاحتضان أطفال هذه المؤسسات وتوفير أجواء عائلية دافئة لهم بعيدا عن حرمانهم من عاطفة الأبوة والأمومة في سنوات الصغر.
وتستهدف وزارة التضامن الاجتماعي غلق جميع دور الرعاية ومؤسسات الطفل المشرّد بحلول عام 2025، على أن تحل مكانها شريحة من الأسر تقوم بكفالة هؤلاء الصغار وتربيتهم وتعليمهم والتعامل معهم كما لو كانوا أبناء حقيقيين، إلى درجة أنها منحت كل أسرة حق انتساب الطفل لها بتسميته باسم عائلتها.
ويصعب فصل توسيع دائرة الكفالة عن التسهيلات غير المسبوقة التي منحتها الحكومة للأسر الراغبة في كفالة الأطفال الأيتام ومجهولي النسب الذين تعج بهم مؤسسات الرعاية، فلم تعد هناك تعقيدات أو اشتراطات صعبة أمام أي أسرة ترغب في رعاية طفل، بل صار من المتاح لها كتابة مواصفاته من خلال نموذج يُرسل إلى وزارة التضامن على الهاتف المحمول.
حتى التعقيدات الإدارية لم تعد موجودة وكل الإجراءات تتم بشكل رقمي عبر طلب إلكتروني محدد، ويتم تحفيز الأسر على الحضانة دون صعوبات كانت تعوقها في الماضي، لترتفع نسبة الكفالة الآن، وهو ما سرّع توفير أجواء أسرية للمحرومين من آبائهم وأمهاتهم قبل أن يتقدموا في السن ويجدوا أنفسهم أسرى داخل دار أشبه بالمؤسسة العقابية.
وبلغت التسهيلات المقدمة للأهالي حدّ أنه صار مسموحا للأرامل والمطلقات ومن لم يسبق لهن الزواج كفالة أطفال ورعايتهم، حتى أن الرجل الذي تتوفى زوجته لم تعد تسقط عنه الحضانة طالما أن الطفل تعوّد عليه ولم يعد يستطيع الابتعاد عنه بالعودة إلى مؤسسة الرعاية، ما وسع الشريحة الأسرية التي يحق لها الكفالة، على عكس ما كان عليه الأمر في الماضي.
ولعبت الدراما التلفزيونية من خلال مسلسل “ليه لأ” الذي انتهت حلقات جزئه الثاني قبل أيام -وهو من بطولة منة شلبي- دورا محوريا في تعديل سلوك وتصور الأسرة المصرية لفكرة كفالة الأطفال الأيتام ومجهولي النسب، حيث نجح بنسبة كبيرة في تغيير الصورة الذهنية الراسخة عن هؤلاء الصغار، وبدا مشجعا على احتضانهم مراعاة لمعاناتهم.
التسهيلات المقدمة للأهالي بلغت حد السماح للأرامل والمطلقات ومن لم يسبق لهن الزواج بكفالة أطفال ورعايتهم
وأكدت وزارة التضامن الاجتماعي أن هذا المسلسل كان له مفعول السحر على الأسرة المصرية؛ فقد نجح في اختراق العادات والموروثات الاجتماعية المتعلقة بمفهوم الكفالة عموما، وناقش قضيتهم بشكل احترافي ومتوازن بعيدا عن الاستعطاف المألوف، ما شجع شريحة واسعة على التقدم إلى مؤسسات الرعاية بطلبات لاحتضان أطفال.
ونسف المسلسل الكثير من الأفكار المرتبطة بتحريم الكفالة، والتي اعتاد المتشددون إطلاقها طوال السنوات الماضية، وأظهر كيف أن الطفل اليتيم ومجهول النسب في حاجة ماسة إلى أسرة تكون مسؤولة عنه وتحتويه وترعاه بشكل مثالي كي يكبر وهو في كامل نضجه النفسي والسلوكي، ويصبح إنسانا غير محروم من الحنان والأمومة.
يتوازى مع ذلك تحلل المؤسسة الدينية في مصر من مواقفها الجامدة تجاه الكفالة وإبداء المرونة في احتضان الأسرة للأطفال الأيتام ومجهولي النسب والموافقة شرعا على إلحاق أسمائهم بالأسر التي قررت كفالتهم وتربيتهم داخل المنزل، وهو ما يتمسك المتشددون برفضه لأسباب ترتبط بقناعات شخصية، من بينها الأبعاد الجنسية البحتة.
ويبدو أن الكثير من الأسر المصرية لم تعد مهتمة أو متأثرة بالخطاب الإقصائي الذي يتبناه المتطرفون، خاصة ما يرتبط بكفالة الأطفال، فطوال سنوات مضت روّج شيوخ التيار السلفي أنه من المحرمات أن تقيم فتاة غريبة قادمة من مؤسسة رعاية مع رجل غريب عنها ولو كان أب أسرة يرغب في رعايتها والتكفل باحتياجاتها.
وزادوا على ذلك أن الابن المكفول لا يحق له شرعا الاجتماع مع أم غريبة عنه في منزل واحد بدعوى أنه سوف يطلع على جسدها، والأب أيضا قد يحتك بجسد الفتاة التي يتكفل بها، وهي مبررات بعيدة عن الشق الإنساني والتراحم والعاطفة الأبوية التي تبحث الحكومة عن أن تكون القاسم المشترك في علاقة الأسرة الكافلة بالطفل.

صحيح أن المتدينين بالفطرة قد يتأثرون بهذا الخطاب التحريضي وغير الإنساني ويرفضون الكفالة، لكن النسبة الأكبر من الأسر لم تعد أسيرة لرؤى وتوجهات المتشددين في المسائل الأسرية القائمة على أساس إنساني ونما الوعي المجتمعي بمسألة التفريق بين الكفالة والتبني.
وقالت عنان حجازي استشارية العلاقات الأسرية إن “تحلل الأسر من الخطاب التحريضي يجعلها تتخذ قراراتها بشكل اجتماعي إنساني بعيدا عن الوصاية، وهذه كانت العقبة الأكبر أمام توسيع دائرة الأسر البديلة التي تكفل أطفال المؤسسات الاجتماعية، وهو مؤشر يؤسس لحياة أسرية قائمة على التراحم”.
وأضافت لـ”العرب” أن “الكفالة حل إنساني وسحري للأسر التي حُرمت من الإنجاب، وهنا تكون الفائدة مشتركة؛ فالأب والأم صار عندهما ابن، والعكس صحيح، وهذه ثقافة كانت محدودة في المجتمع لأسباب مرتبطة بتعقيدات وفتاوى غير موثوق فيها، وموروثات اجتماعية قديمة تمنع دخول الغرباء إلى المنزل، وبدأ تحطيم ذلك أمام تعميم التحضر المجتمعي”.
ولفتت إلى أن دور الرعاية الاجتماعية مهما كانت تتعامل مع الطفل بطريقة إنسانية فإنها لا تغني الصغير عن ضرورة أن تكون له أسرة ولو كان غريبا عنها، لكنها ستخلق منه إنسانا سويا متسقا مع نفسه ومحبا للآخرين، وسوف ينشأ في البيئة الطبيعية التي يحتاجها، حيث يوجد الأب والأم اللذان يتبادل معهما الأحاسيس ويتعاملان معه بمشاعر التعاطف والتراحم”.
ولئن كانت طلبات الكفالة الأسرية للأيتام ومجهولي النسب في تصاعد مستمر فإن ذلك لا يعني أن كل المجتمع لديه نفس الثقافة، فهناك شريحة كبيرة ما زالت تجهل نظام الأسر البديلة، وذلك لأسباب ترتبط بالأمية وضعف الخطاب الإعلامي وانخفاض منسوب التوعية، ما يتطلب جهدا مضاعفا لتعميم الفكرة وخطابا دينيا أكثر انفتاحا.
وتقترح بعض الأصوات أن تقدم الحكومة -بالتوازي مع التسهيلات الممنوحة للأسر في نظام الكفالة- إلى العائلة حزمة من المزايا، مثل تخفيض الضرائب واشتراكات الأندية وزيادة الدعم وإسقاط المصروفات الدراسية، على الأقل للشريحة ذات الدخل المتوسط، مثل المطلقات والأرامل والعازبات، وذلك لجذب انتباه الناس وحثهم على الكفالة دون أعباء مالية مرهقة.