جيهان السادات قرينة "بطل الحرب والسلام" بمصر ترحل في هدوء

قرينة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات قدمت نموذجا للمرأة المصرية العصرية في زمن التشدد.
السبت 2021/07/10
جيهان رحلت.. ولم ترحل سيرتها التي ملأت مصر حضورا

أتاحت وفاة جيهان السادات قرينة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات الجمعة فتح الكثير من الملفات حول مسيرتها بعيدا عن الدور السياسي الذي لعبه زوجها في حياة المصريين، فقد حافظت على مكانة كبيرة في قلوب قطاع كبير منهم، على الرغم من غروب السلطة عنها منذ أن لقي زوجها مصرعه قبل نحو أربعين عاما، فالمرأة التي لازمها لقب سيدة مصر الأولى أثناء السلطة لم يفارقها بعدها، وحفرت لنفسها اسما لا يُنسى، وصارت نموذجا لما تتمناه مصريات كثيرات.

حفلت مواقع التواصل الاجتماعي بكلمات عديدة في رثائها لمن عرفوها عن قرب أو عن بعد، ومن شاهدوها عبر التلفاز أو قرأوا عنها، أو حتى من سمعوا عنها من أحد أقاربهم، وعبّر التعاطف الكبير مع محنة مرضها الأخير عن حجم التعلق بها والتقدير الإنساني لها، حيث مكثت في المستشفى نحو أسبوعين عندما اشتد عليها المرض مؤخرا، وطوال هذه المدة لم تتوقف وسائل الإعلام عن متابعة حالتها وطمأنة الباحثين عن تطورات حالتها على المنصات المختلفة.

لم تفارقها الأضواء بعد رحيل زوجها لأنها كانت قريبة من المصريين وتتمسك بعاداتهم وتقاليدهم، ولا تميل إلى جذورها الأجنبية، فالبساطة والتلقائية والدفء الذي لازمها طوال حياتها أنهت أسطورة الاختلاف بينها وبين المصريين، ولم تسمح أن يؤثّر ذلك على تعلقها بالواقع المصري ومحاولة تغييره إلى الأحسن من خلال تحركات عملية، أثقلتها بزيادة حصيلتها الثقافية ومواصلة دراساتها العليا، حيث جلست على مقاعد الدراسة من دون التفات إلى كونها زوجة لرئيس الجمهورية، واستكملت تعليمها وحصلت على الليسانس في الأدب العربي ثم درجة الماجستير وبعدها الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة القاهرة، وظلت تدين بالفضل لأساتذتها طوال حياتها.

كلنا نحب جيهان

في الفيلم الشهير ”مرجان أحمد مرجان“ لعادل إمام وميرفت أمين العديد من اللقطات الرومانسية بينهما، وأوحى الهتاف الذي أطلقه جمهور غفير “كلنا بنحب جيهان” كتعبير عن تأييدها لعودتها بأنه هتاف من المصريين لجيهان السادات وليس للبطلة في الفيلم، خاصة أن الفنانة ميرفت أمين هي التي لعبت دور جيهان السادات في فيلم “أيام السادات” بطولة أحمد زكي الذي سبق فيلم “مرجان”.

ومن هنا كان الربط تلقائيا ومنطقيا من الجمهور، وربما قصده المؤلف في ذلك الوقت، للاستفادة من الشخصية والاسم وما ينطويان عليه من مضامين سياسية، ولذلك عبّر المشهد ومعانيه البعيدة عن مدى تعلق شريحة من المصريين بسيدة مصر الأولى.

الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أصدر قرارا بمنحها وسام الكمال وأمر بإطلاق اسمها على أحد محاور القاهرة، كما نعتها رئاسة الجمهورية في بيان رسمي، وصفتها فيه بأنها "قدمت نموذجا للمرأة المصرية في مساندة زوجها في ظل أصعب الظروف وأدقها"

رحلت جيهان ولم ترحل سيرتها التي ملأت مصر حضورا، ليس لأنها كانت ظلا للرئيس المصري، لكن لما تركته من بصمات عصرية في الوجدان العام، ففي الوقت الذي مال فيه زوجها نحو مهادنة التيار الإسلامي وكان لقب الرئيس المؤمن محببا إليه، قاتلت هي على الجبهة المقابلة لنشر الوعي واستعادة حقوق المرأة المصرية المهضومة، وعملت على ضبط الكثير من القوانين التي تجور على المرأة.

رأست جمعية الهلال الأحمر المصري خلال حرب أكتوبر وبنك الدم، وشغلت منصب الرئيسة الفخرية للمجلس الأعلى لتنظيم الأسرة، ورئيسة الجمعية المصرية لمرضى السرطان وتعددت المجالات التي طرقت أبوابها بشكل يصعب حصره، فقد احتل العمل الاجتماعي جل اهتمامها، ووجدت فيه نفسها، وأوجدت تجربة لم تكن مألوفة.

ولعبت أدوارا أخرى في بعض المشروعات الداعمة للمرأة في المجال السياسي، وتشجيع تعليمها، وأسهمت في تعديل بعض القوانين، أبرزها قانون الأحوال الشخصية الذي حقق قدرا من التوازن لصالح المرأة، وبات معروفا في مصر بـ”قانون جيهان”، وأعطى الزوجة الحق في تحريك دعوى قضائية للمطالبة بالنفقة، وإطالة فترة حضانة الطفل لدى الأم، ومنح الزوجة الحق في العيش في منزل الزوجية حال عدم وجود مكان آخر للإقامة.

يرى البعض أن هذه النوعية من التصرفات تسير في طريق مقابل لما يقوم به زوجها، حيث ترك المجال فسيحا أمام تحرك جماعة الإخوان وأطياف مختلفة من التنظيمات الإسلامية إلى أن أجهز عليه متشددون في العرض العسكري الشهير في الـ6 من أكتوبر 1981، وكأنها كانت تعلم أن نشر الوعي هو السبيل الوحيد لمواجهة مشروع الدولة الدينية الخفي وتأسيس دولة مدنية حضارية. لم تختف من المشهد المصري العام، لأنها لم تكن زوجة الرئيس فقط، بل كانت ناشطة على المستوى الاجتماعي تريد أن تترك بصمتها في الفضاء العام، الأمر الذي زاد الناس تعلقا بها، وأخرجها تقريبا من دائرة الاختلاف حول توجهات زوجها وسياساته إلى وضعها في دائرة مستقلة بذاتها، خاصة أن رحيل زوجها زادها التصاقا بالمصريين، وحملت على عاتقها مهمة تقديم صورة ناصعة لهم في الخارج.

زوجة بدرجة ناشطة

سيرة جيهان لم ترحل برحيلها، وهي التي ملأت مصر حضورا وبصمات عصرية في الوجدان العام
سيرة جيهان لم ترحل برحيلها، وهي التي ملأت مصر حضورا وبصمات عصرية في الوجدان العام

تمكنت من تحقيق انتشارها في الداخل والخارج بنعومة بالغة، وهو ما جعل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يصدر قرارا بمنحها وسام الكمال وإطلاق اسمها على أحد محاور القاهرة، كما نعتها رئاسة الجمهورية في بيان رسمي الجمعة وصفتها فيه بأنها “قدمت نموذجا للمرأة المصرية في مساندة زوجها في ظل أصعب الظروف وأدقها، حتى قاد البلاد لتحقيق النصر التاريخي في حرب أكتوبر المجيدة الذي مثل علامة فارقة في تاريخ مصر الحديث، وأعاد لها العزة والكرامة”.

من تابعوا سيرة جيهان السادات ومسيرتها يقولون إنها استمدت رونقها من منصب زوجها، الرئيس الراحل، غير أن قريبين منها يرون غير ذلك، فقد صنعت لنفسها مكانة مستقلة، لأنها تزوجت أنور السادات بعد أن ظل مطاردا من البوليس المصري لفترة، عقب اتهامه بمقتل أمين عثمان وزير المالية في حكومة الوفد، ورئيس جمعية الصداقة المصرية – البريطانية الذي اغتيل بمعرفة الجمعية السرية بعضوية الرئيس أنور السادات عندما كان ضابطا بالجيش إبان فترة حكم الملك فاروق.

السيدة الأولى جيهان مثلت عقدة لزوجات الرؤساء اللائي جئن بعدها، حيث حاولت سوزان، زوجة الرئيس الراحل حسني مبارك، تقليدها في أنشطتها الاجتماعية والثقافية، غير أنها لم تفلح في السير على طريقها بصورة كاملة، وبدت غالبية تصرفاتها تقليدا أو تكرارا لجيهان

ولدت في القاهرة عام 1933 وهي ابنة لطبيب مصري حمل الجنسية البريطانية ولوالدة بريطانية، وكانت قد التقت لأول مرة بالسادات وهي في الخامسة عشرة حين كان وقتها خارجا من السجن بسبب نشاطه السياسي المتعدد. وارتبطت معه بعلاقة عاطفية انتهت بالزواج في الـ29 من مايو 1949 بعد خطبة دامت بضعة شهور، ووقتها كان ضابطا صغيرا في الجيش قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، وأنجبت منه لبنى ونهى وجيهان، وجمال.

شارك السادات في ثورة الـ23 من يوليو 1952 التي قادها جمال عبدالناصر، ولعب دورا مهما ضمن الصفوف الأولى للضباط الأحرار الذين قادوا الدولة المصرية آنذاك، وتقلد الكثير من المناصب السياسية بعدها، إلى أن وصل إلى مقعد رئيس الجمهورية خلفا لعبدالناصر الذي وافته المنية فجأة، وكان وقتها السادات نائبا له.يكشف توقيت الزواج أنها راهنت على نبوغ السادات وآمنت به في وقت كان الكثير من زملائه يرون فيه رجلا باهتا، وأحيانا منافقا، وهو ما يعني أنها أسهمت بدور خفي في حدوث تغييرات كبيرة في شخصيته، واستثمرت في ذكائه الفطري.

كسرت جيهان السادات الكثير من المحرمات المصرية التي سادت خلال عهد الرئيس الراحل عبدالناصر، والذي لم يكن المصريون يعرفون الكثير عن حياته العائلية، لأن زوجته السيدة تحية تفرغت لتربية أولادها، ولذلك عندما انتشر اسم جيهان في الشارع بدا غريبا، استقبله البعض بترحاب وكان منسجما مع سياسة الانفتاح التي طبقها زوجها في المجالين السياسي والاقتصادي، واستقبله آخرون بتحفظ لأن ممارساتها وأنشطتها في المجال العام غير مألوفة.

أدى تصميمها على توسيع نشاطها الاجتماعي إلى توسيع هامش الحركة أمامها وفي كل مرة تمارس نشاطا كانت الصورة الذهنية عنها تصطحب معها تقديرات جديدة حولها، ومعلومات لم تكن منتشرة عن زوجة الرئيس، ربما ساعدتها جذورها الإنجليزية في هذا الانفتاح، وهو ما لم يكن يرفضه زوجها، وترك لها الحرية لتملأ فراغا اجتماعيا كان حريصا على توظيفه في مشروعه الطموح نحو تبني النموذج الليبرالي في السلطة والمجتمع.

حالة خاصة

الأضواء لم تفارق جيهان بعد رحيل زوجها، كانت قريبة من المصريين، تتمسك بعاداتهم وتقاليدهم، ولا تميل إلى جذورها الأجنبية، فالبساطة والتلقائية والدفء الذي لازمها طوال حياتها أنهت أسطورة الاختلاف بينها وبينهم
الأضواء لم تفارق جيهان بعد رحيل زوجها، كانت قريبة من المصريين، تتمسك بعاداتهم وتقاليدهم، ولا تميل إلى جذورها الأجنبية، فالبساطة والتلقائية والدفء الذي لازمها طوال حياتها أنهت أسطورة الاختلاف بينها وبينهم

مثلت السيدة الأولى عقدة لزوجات الرؤساء اللائي جئن بعدها حيث حاولت سوزان مبارك زوجة الرئيس الراحل حسني مبارك تقليدها في أنشطتها الاجتماعية والثقافية، غير أنها لم تفلح في السير على طريقها بصورة كاملة، وبدت غالبية تصرفاتها تقليدا أو تكرارا لجيهان، وهو ما جعل سوزان أقرب إلى الظل لها.

وفي الوقت الذي اختفت فيه زوجة الرئيس الإخواني محمد مرسي من المشهد العام، اختطت من بعدها السيدة انتصار السيسي، زوجة الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، خطا محافظا نسبيا، فهي تظهر بحساب وتختفي كذلك، وتشارك في بعض الأنشطة الاجتماعية في حدود ضيقة، كي تبتعد عن تشبيهها بجيهان التي أصبحت نموذجا يصعب تكراره في الحياة المصرية، بسبب اختلاف الزمان والأجيال وطقوسهما.

البعض يرى أن تصرفات جيهان كانت تسير في طريق مقابل لما يقوم به زوجها الذي ترك المجال فسيحا أمام تحرك جماعة الإخوان والتنظيمات الإسلامية إلى أن أجهز عليه المتشددون، وكأنها كانت تعلم أن نشر الوعي هو السبيل الوحيد لمواجهة مشروع الدولة الدينية الخفي

وضعت جيهان عصارة تجربتها مع السادات في كتاب بعنوان “سيدة من مصر” بدا سرديا في مضمونه، وحوى قصصا من تجاربها المختلفة مع العمل السياسي والاجتماعي، وأشارت فيه إلى زوجها بقولها “كثيرون قالوا إنه رجل سبق عصره، ولكنّى لا أوافق كيف يمكن لفكرة السلام وإنهاء الحرب أن تكون سابقة لعصرها، إن زوجي يمثل رأى الأغلبية في مصر، وبفضل الله مرت حياته كرسالة، مكرساً نفسه وأخيراً مضحيا بها من أجل بلده”.بعد اغتيال زوجها كرست جيهان السادات جانبا من جهودها للتدريس في الجامعة وإلقاء بعض المحاضرات والمشاركة في ندوات عن حقوق المرأة ومقتضيات السلام، وعملت كأستاذة زائرة في جامعات أميركية، فقد كانت شخصيتها جذابة في الولايات المتحدة كزوجة لأول رئيس صنع السلام مع إسرائيل، ولأنها كانت حريصة على أن تسير على دربه في عملية نشر السلام التي لقيت هوى لدى قطاعات غربية عدة.

روت في مقدمة الكتاب ملخصا عن رؤيتها للمجتمع المصري، وعن قصد أو دونه عرضت جانبا من تاريخ مصر الحديث منذ قيام ثورة يوليو 1952، مرورا بزيارة زوجها التاريخية إلى القدس عام 1977، وتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، وحتى اغتياله على يد متشددين عام 1981، وطوال مراحل عدة سردت حكايات عاصرتها من خلال مسيرة زوجها.

رحلت جيهان من دون أن يرحل معها الأثر الاجتماعي الذي تركته، حيث أسست عام 1972 جمعية الوفاء والأمل للمحاربين القدماء وضحايا الحروب والتي كان لها دور بارز في إعادة تأهيل ومساعدة ضحايا الحروب التي خاضتها مصر، ولا تزال هذه الجمعية تعمل وتحظى برعاية من الحكومة، وتمثل نموذجا للعمل التطوعي النبيل.

نجحت سيدة مصر الأولى في ترك ميراث من الإنجازات التي يمكن الاتفاق أو الاختلاف حول تقييمها حاليا، لكن لا أحد ينكر أنها كانت عنوانا لافتا لمصر في وقتها، بكل تعقيداتها وتشابكاتها، والتي غرس السادات بذورها في التربة.

12