البيعة وفقهها

مسألة تجديد البيعة للحاكم في الفقه الديني محيرة جداً. موضع الحيرة يبدأ من تعريف الشخص الذي يستحق أن يُبايع، وهذا له شروط عدة لا تنطبق على الفاقد للعلوم الدينية ولمتطلبات الإمامة في الصلاة.
الأحد 2021/07/04
أحكام البيعة تحسم وضع المشهد العام

ترتسم إحدى أطرف التدابير التي يلجأ إليها الحاكم المكروه الذي عافه الناس، عندما يكلف أعوانه جمع رهط من الناس لكي يُعلنوا أنهم قد جددوا له البيعة، وهي فكرة مستعارة من الفقه والتاريخ الإسلاميين. وتأخذ الطرافة مداها عندما يكون صاحب التدبير، لم يُبايع أصلاً، فاز في انتخابات لمرة واحدة بنسبة متوسطة، قبل أن تنكشف نواياه ورداءة أدائه، ثم التصق بالكرسي بقوة العسس والهراوة واللغة الكاذبة. وتتشكل المفارقة عند دفع الحزانى الذين يتوسلون الرضا منه، إلى الإعلان عن تجديد بيعته، دون أن يتنبه إلى أن هذا العنوان، معناه الضمني أن البيعة الأولى المفترضة قد انتهت، وأنه أصبح متطفلاً وغير ذي صفة. ولا يسأل نفسه هل يكون تجديد البيعة نافذاً عندما يتجمهر مئة شخص في شارع أو حارة لكي ينوبوا عن عشرين مليوناً أو أقل أو أكثر؟ وما شأن النظام السياسي في التاريخ المعاصر بشروط البيعة في صدر الإسلام؟ وفي الحقيقة، إن مسألة تجديد البيعة للحاكم في الفقه الديني محيرة جداً. موضع الحيرة يبدأ من تعريف الشخص الذي يستحق أن يُبايع، وهذا له شروط عدة لا تنطبق على الفاقد للعلوم الدينية ولمتطلبات الإمامة في الصلاة ومحدداتها المسلكية. ويبدو أن استخدام المفهوم نفسه كان مقصوداً للتأثير العاطفي وللإيحاء بالتقوى والرشاد ورضا الناس، وبالتالي يوضع المفهوم قيد التداول، كإحدى وسائل النصب والضحك على الذقون. فمن يصعب عليه الفوز في انتخابات نزيهة وشفافة يلتمس لنفسه بيعة، علماً بأن هكذا بيعة لا تُصرف من بنك العلوم السياسية ونظرية الدولة، ولا يُحسب لها رصيد. وعندما تكون البيعة من أسرة لواحد من أبنائها، فهذه محض تقليد يخص الأسرة وحدها ولا يعبر عن رضا الناس حتى ولو أظهرت الرضا من موقع التزامها بالأمر الواقع التاريخي أو التقليدي، لاسيما عندما لا يكون المُبايع إماماً وصاحب رئاسة دينية وزمنية معاً، ويكون مجافياً العدالة بشروطها الجامعة، ولا يتحلى بالعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، وليس صاحب رأي يُفضي إلى سياسة الرعية وتدبير مصالحها، ويتسم بالشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة (النساء المصونة) وجهاد العدو، وغير ذلك من الشروط.

تنشأ الحيرة بين مفهومين يحسمهما الدين: الأول، هو أن الإخلال بشروط البيعة يُسقطها، والثاني تأكيد جمهور الفقهاء – وحتى من بينهم الثائر ابن تيمية – على حُرمة الخروج على الحاكم، حتى ولو كان فاجراً أخلَّ بشروط البيعة وأسقطها. عندئذٍ يصبح السؤال كيف يمكن إزاحة من سقطت بيعته بفعل إخلاله بشروطها، إن كان من أخطر المحرمات الخروج على الحاكم الذي استولى على الحكم بقوة السيف، أو مكث فيه لسنين طويلة بقوة الأمر الواقع؟

من المفارقات الطريفة أيضاً أن ما اطلعنا عليه من فقه البيعة يتتبع دواخل ودوافع الذين يبايعون، ويقرر أن الإثم يقع على من يشارك في البيعة طمعاً في المال، أو رهبة من المبايَع، ولا يتتبع من يتلقى البيعة علماً بأنه أصل المشكلة. فالنواهي تؤكد على أن الخروج على الحاكم الفاجر الفاسد ومجاهدة سلطته عملٌ مذموم وبمثابة فتنة. ويضع ابن تيمية هذا التأثيم في خانة درء المفسدة وجلب المنفعة، ويشدد على منع الأولى، خشية بلاء أكبر ينجم عن الثانية.

أحكام البيعة وطاعة ولي الأمر تحسم وضع المشهد العام لشعب أو أمة بقرار حُرمة الثورة. وعند التوسع في مطالعة فقه البيعة تحديداً، لا نجد الثغرة التي يمكن أن تنفذ منها الشعوب إلى فضاء التغيير والحرية. وبهذه المعادلة يُصبح وعاظ السلاطين في الموضع الصحيح، بكل أسف، على الرغم من افتضاحهم، كونهم حذروا من الخروج على الحاكم الفاجر، وذبّوا عنه.

24